رم - مهدي مبارك عبد الله
في الوقت الذي تحاول فيه بعض الدوائر السياسية الإعلامية رسم صورة دراماتيكية حول تهديدات مفترضة تتكشف الحقائق شيئًا فشيئًا لتفضح أن الاتهام الموجّه لإيران بمحاولة اغتيال السفيرة الإسرائيلية في المكسيك ليس سوى أكذوبة محكمة الصنع هدفها تصعيد التوتر وتبرير سياسات خارجية مشبوهة
مع مطلع يوم تشرين الثاني / نوفمبر 2025 أعلنت وسائل إعلام إسرائيلية وغربية أن أجهزة الاستخبارات أحبطت ما وصفته بمحاولة اغتيال استهدفت السفيرة الإسرائيلية في المكسيك " إينات كرانز نيغر " متهمةً حسن إيزادي الذي قيل إنه أحد عناصر فيلق القدس الإيراني بالوقوف وراء المخطط ووفقاً للرواية الإسرائيلية وصل إيزادي إلى العاصمة مكسيكو سيتي بجواز سفر مزور وبدأ بمراقبة تحركات السفيرة ومقر إقامتها قبل أن يعتقل بعملية استخبارية مشتركة بين واشنطن وتل أبيب بالتنسيق مع السلطات الامنية المكسيكية غير أن الأخيرة سارعت إلى نفي أي علم أو مشاركة لها في مثل هذا الامر فيما وصفت السفارة الإيرانية في المكسيك القصة بأنها أكذوبة إسرائيلية جديدة هدفها تشويه صورة إيران امام العالم وتوجيه الأنظار بعيداً عن الجرائم الإسرائيلية التي ترتكب يوميا في غزة
الرواية الاسرائيلية المتخيلة والمشكوك في صحتها جاءت في خضم التصعيد الإعلامي والسياسي المتواصل بين طهران وتل أبيب لتفتح باب التساؤلات مجدداً حول من المستفيد الاول من تسويق مثل هذه القصص ولماذا في هذا التوقيت تحديداً وبالمناسبة الاتهام الإسرائيلي المزعوم لإيران لا يمكن فصله عن سياق التوتر الإقليمي المتصاعد بعد الحرب على غزة وعن رغبة تل أبيب في إعادة إنتاج سردية التهديد الإيراني التي طالما استخدمتها لتبرير جرائمها ومراكمة الدعم الغربي لها
إن اتهام إيران بهذه الحادثة في ذروة انشغال المنطقة بتداعيات العدوان الإسرائيلي على غزة وبعد الهجوم الإسرائيلي المتواصل على الاراضي اللبنانية والسورية والفلسطينية يكشف عن محاولة إسرائيلية متعمّدة ضمن رواية جديدة تعيد إيران إلى واجهة التهديد العالمي الذي يبرر استمرار آلة العدوان والتسليح والابتزاز السياسي والمعروف ان الموساد الإسرائيلي دأب تاريخياً على صناعة مثل هذه الاحداث المفبركة التي تتيح له شرعنة أفعاله العدوانية بحجة الدفاع عن النفس وهي ذات المدرسة التي بنت عليها إسرائيل منذ نشأتها فلسفة وجودها القائم على اصطناع الخوف الدائم والعدو الذي يستهدف وجودها
ليست هذه هي المرة الأولى التي تلجأ فيها أجهزة الاحتلال إلى مثل هذه الادعاءات والحيل فمنذ ستينيات القرن الماضي مارست تل أبيب عمليات تفجير وتصفية داخل دول أجنبية كانت هي نفسها وراءها ثم نسبتها إلى الفلسطينيين أو إلى حركات عربية يسارية مناهضة لها ففي العام 1954 نفذ عملاء إسرائيليون عملية لافون في مصر لتفجير منشآت أميركية وبريطانية من اجل إفساد علاقات القاهرة بتلك الدول ثم ألصقوا التهمة بحركات وطنية مصرية وفي مراحل لاحقة فجّرت خلايا إسرائيلية عدة كنُس ومطاعم يهودية في أوروبا ولبنان واتهمت بعض الفصائل الفلسطينية انذاك لخلق مبرراً لتصفيتهم أو ملاحقتهم دولياً ولا فوتنا ان نذكر ايضا سلسلة تفجيرات بغداد 1950- 1951 التي استهدفت مؤسسات يهودية في بغداد حيث بينت عدة مصادر ان عملاء صهاينة بأشراف جهاز الموساد كانوا خلفها لتخويف اليهود ودفعهم للهجرة إلى اسرائيل وهذه سياسة ثابتة ابتعتها اسرائيل لاختلاق الحدث ثم تسويقه كحقيقة دامغة في الإعلام الغربي الذي يتولى اعادة تضخيمها ليستفيد الاحتلال منها سياسياً وأمنياً
لعل ما يعزز الشكوك الكبيرة حول أكذوبة الاغتيال المزعوم في المكسيك أن إسرائيل دأبت على إطلاق مثل هذه المزاعم كلما وجدت نفسها أمام مأزق سياسي أو أزمة أخلاقية ففي عام 2012 مثلاً اتهمت طهران بتفجير حافلة سياح إسرائيليين في بلغاريا دون اي دليل حاسم كما روجت عام 2018 لاتهامات ضد حزب الله بالتحضير لهجمات في قبرص وثبت لاحقاً أن الأمر لم يكن إلا تضخيماً استخباراتياً يخدم أغراض الردع الإعلامي واليوم يأتي الخبر الجديد في لحظة سياسية حساسة تحاول فيها إسرائيل استدرار تعاطف الغرب وإحياء منطق الضحية المهددة بعد أن تآكلت تلك الصورة الكلية لدولة الاحتلال بفعل جرائم الإبادة الجماعية في غزة
الحقيقة المؤكدة انه لا يمكن عزل هذه الأكذوبة الجديدة عن منظومة الخداع الأيديولوجي التي تأسس عليها الكيان الصهيوني منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية حين حول مأساة الهولوكوست إلى مشروع سياسي واقتصادي يستنزف به ضمير العالم ويبتز من خلاله دولاً كبرى وفي مقدمتها ألمانيا التي ما تزال تدفع تعويضات ومساعدات سنوية ثابتة لتل أبيب حتى اليوم ولا بد ان نعلم ان كيان الاحتلال الطفيلي لا يعيش إلا في ظل رواية الضحية المستهدفة وهي الرواية التي لا يمكن استمرارها إلا بصناعة أعداء دائمين سواء كانوا عرباً أو إيرانيين أو حتى مجموعة حركات طلابية معارضة في الغرب
في ذات الوقت لم تكتفي الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بفبركة الحوادث ضد خصومها بل اصطنعت أحياناً ضحايا من صفوفها وابناء جلدتها لتكسب التعاطف الدولي حيث كشف باحثون في السنوات الأخيرة عن عمليات اغتيال داخلية تورط فيها الموساد نفسه طالت شخصيات إسرائيلية بارزة جرى الترويج لها بأنها استهدفت مباشر من إرهابيين فلسطينيين كما حدث في عدد من العمليات في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي حين كانت إسرائيل تسعى لتبرير حربها ضد منظمة التحرير في لبنان والأردن
واقعيا لا يختلف هذا النمط عن النهج الإعلامي الأميركي الذي ينسق معه الاحتلال في كل اتهام يوجه ضد طهران فقد سبق للولايات المتحدة أن ادعت أن إيران خططت لاغتيال وزير الخارجية السابق مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي الأسبق جون بولتون وهي اتهامات لم تصمد أمام أي تحقيق قضائي أو دولي لكنها خدمت غاياتها السياسية في حينه لتبرير سياسة العقوبات والتصعيد واليوم يعاد إخراج السيناريو ذاته بتفاصيل جديدة من خلال اتهام فيلق القدس بالتخطيط لاغتيال سفيرة إسرائيل في المكسيك من دون أن يقدم أي طرف دليلاً واحداً على صحة الرواية
هذا الاسلوب من التضليل الإعلامي والسياسي بات معروف ومكشوف وهو ليس سوى امتداد فاضح للمدرسة الإسرائيلية في إدارة التزييف والخداع حيث تتحول الأكذوبة إلى أداة استراتيجية لإنتاج الخوف والتعبئة وشراء الوقت واتهام إيران بمحاولة اغتيال السفيرة الإسرائيل في المكسيك ليس سوى حلقة جديدة في مسلسل الأكاذيب الذي يبرر وجود دولة الاحتلال واستمرار دعمها الغربي تماماً كما بررت في السابق مجازرها في دير ياسين وقانا والدوايمة ومدرسة بحر البقر وقبية وغزة بأنها كانت عمليات للدفاع عن النفس
منطقيا لا يمكن قبول الرواية الاسرائيلية الرسمية على عواهنها دون دراسة دقيقة للأدلة والملابسات والتاريخ الحديث يقدم أمثلة ملموسة على أن الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية " الموساد / الشاباك / وامان " اعتمدت عدة أساليب مضللة شملت أحيانًا استهداف أماكن واشخاص في دول أخرى والقت اللوم على أطراف ثالثة لخلق مسارات مضللة حول المسؤولية الحقيقية عن الهجمات ما يبرز هشاشة الاتهامات المبنية على معلومات استخباراتية غير دقيقة فهنالك الكثير من هذه الأمثلة التاريخية تدعو المعنيين للتريث في قبول أي رواية اسرائيلية وضرورة التحقق من الأدلة التقنية والوثائقية قبل الاستناد إليها لتبرير اي اتهامات أو إجراءات سياسية وعسكري غالبا ما تكون غير حقيقية .
في المحصلة تبدو هذه الحادثة مثالاً فاضحا على عدم براعة وقدرة إسرائيل في توظيف الاكاذيب والفبركات كجزء من سياستها الخارجية والأمنية إذ تدرك أن الحرب على إيران ليست فقط عسكرية أو استخباراتية بل إعلامية أيضاً وفي الوقت الذي يتهاوى الغطاء الأخلاقي عن دولة الاحتلال تحت وطأة جرائمها في فلسطين تحتاج تل أبيب إلى قصة جديدة تلهي الرأي العام بتفاصيلها وتعيد رسم خطوط الخطر الوهمي القادم من طهران لكن ما فات عليها أن العالم اليوم أكثر وعياً من أن يصدق رواية وُلدت في مكاتب الموساد والسي أي ايه وسقطت قبل أن تجد من يصدقها في شوارع مكسيكو سيتي والعالم الحر
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]