عقد التحوّل الأردني: من إدارة الأزمات إلى صناعة المستقبل


رم - احمد عبدالباسط الرجوب

يمرّ الأردن اليوم بواحد من أكثر المنعطفات حساسية في تاريخه الحديث، حيث تتقاطع الأزمات العالمية والمحلية لتصوغ مشهداً معقداً لمستقبل البلاد في العقد القادم.
في عالمٍ يتغير بوتيرة متسارعة، تتضاعف التحديات: تحولات تكنولوجية مذهلة، اضطرابات اقتصادية عالمية، تصاعد للأزمات المناخية، وتوترات إقليمية لا تهدأ.

السؤال الأعمق: هل ما زلنا نعيش تداعيات ما بعد الجائحة، أم أن الأزمات الأخيرة — وعلى رأسها حرب غزة — أيقظت وعينا لإعادة ترتيب الأولويات الوطنية؟

ما بين الخطر والفرصة، يقف الأردن أمام جملة من التحديات الوجودية التي تستدعي وعياً استباقياً واستجابة استراتيجية.

1. الأمن السيبراني: الحروب الخفية في فضاء غير مرئي

لم يعد الأمن السيبراني ترفاً تقنياً، بل أصبح خط الدفاع الأول عن السيادة الوطنية.
ومع توسّع التحول الرقمي في قطاعات الدولة — من الخدمات الحكومية إلى المالية والصحية — تزداد مخاطر الهجمات الإلكترونية التي قد تشلّ الخدمات أو تسرّب بيانات حساسة.

في عالم تُدار فيه الثروات والمعلومات عبر الخوادم، حماية الفضاء السيبراني معركة وجودية لا تقل أهمية عن حماية الحدود.

2. الانتقال المناخي غير المنظم وتآكل النسيج الاجتماعي
يحتل تغيّر المناخ صدارة المخاطر التي تواجه الأردن، إذ تتفاقم ندرة المياه وترتفع درجات الحرارة وتشتدّ الظواهر الجوية المتطرفة.
لكن الخطر الحقيقي يكمن في الانتقال غير المنظم نحو الاقتصاد الأخضر. فبينما يسعى العالم للتحول إلى الطاقة النظيفة، يبقى السؤال:

هل يمكن للأردن أن يحقق هذا التحول دون أن يدفع المواطن الثمن؟

التحول العادل يتطلب استثمارات ضخمة وسياسات تحمي الفئات الضعيفة. أي إخفاق في إدارة هذه المرحلة قد يؤدي إلى اتساع الفجوة الاجتماعية وتآكل الثقة بين الدولة والمجتمع.

3. أزمات الديون والمواجهات الجيو-اقتصادية
الاقتصاد الأردني يواجه ضغطاً متزايداً بسبب ارتفاع الدين العام وتراجع الحيز المالي.
فخدمة الدين تستنزف الموازنة العامة على حساب التعليم والصحة والتنمية، في وقتٍ تتصاعد فيه المواجهات الاقتصادية بين القوى الكبرى، وتُستخدم التجارة والطاقة كسلاح سياسي.

الحفاظ على الأمنين الغذائي والطاقي لم يعد مسألة اقتصادية فحسب، بل مسألة سيادة وطنية.

4. تكنولوجيا الفضاء: السيادة الرقمية واستقلال القرار
في زمنٍ تتحكم فيه البيانات بمسار الدول، يعتمد الأردن على الأقمار الصناعية الأجنبية لمراقبة موارده الطبيعية والبيئية.
هذا الاعتماد يجعله متلقياً أكثر من كونه فاعلاً.
امتلاك قمر صناعي وطني، حتى لو صغير، هو استثمار استراتيجي يمنح الأردن استقلالية في المعلومة وقدرة على اتخاذ القرار المبني على بيانات دقيقة.

التحكم بالمعلومة هو الخطوة الأولى للتحكم بالمستقبل.

5. من التحديات إلى الحلول: نحو رؤية استباقية
في مواجهة هذه العاصفة المتعددة الأوجه، لا مجال للتردد أو الإحباط.
الطريق إلى المستقبل يمر عبر تحويل الصدمات إلى فرص من خلال خمسة مسارات رئيسية:

تعزيز السيادة الرقمية والبيئية:
الاستثمار في الأمن السيبراني، وبناء الكفاءات الوطنية، ودراسة مشروع قمر صناعي وطني.
الانتقال العادل إلى الاقتصاد الأخضر:
خطة وطنية شاملة لجذب الاستثمارات في الطاقة المتجددة، مع برامج حماية اجتماعية وضمانات للعدالة الوظيفية.
إدارة الدين وتحفيز النمو:
إصلاح مالي وهيكلي متدرج يعزز كفاءة الإنفاق ويفتح المجال للنمو الإنتاجي المستدام.
تعزيز التماسك الاجتماعي:
دعم شبكة الأمان الاجتماعي، وتوسيع الحوار الوطني لضمان توزيع عادل لعوائد التنمية.
دبلوماسية نشطة:
توظيف المكانة السياسية للأردن لبناء تحالفات إقليمية ودولية تعزز أمنه المائي والغذائي والطاقي.

الخلاصة: العقد القادم امتحان للإرادة الوطنية

يقف الأردن اليوم أمام مفترق طرق مصيري:
إما أن ينخرط في دوامة الأزمات بردود فعل متأخرة،
أو أن يتبنّى رؤية استباقية شجاعة تقوم على التخطيط الطويل المدى، والاستثمار في الإنسان والتكنولوجيا، وتعزيز الثقة بين المواطن والدولة.

العقد القادم ليس مجرد اختبار للقدرة، بل امتحان للإرادة الوطنية — والنجاح فيه ليس خياراً، بل ضرورة وجودية.
باحث ومخطط استراتيجي



عدد المشاهدات : (4192)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :