دعوة ملكية مستنيرة لتطوير العدالة الجزائية وتوسيع نطاق العقوبات البديلة


رم -
مهدي مبارك عبد الله

في زمن تتسارع فيه خطوات الإصلاح وتعلو فيه قيم العدالة والتحديث يواصل جلالة الملك عبدالله الثاني بثاقب رؤيته وعمق فكره دفع مسيرة الدولة الأردنية نحو نهج متكامل يجعل من الإنسان محور التنمية وغاية القانون حيث لا يكتفي جلالته بدعوات الإصلاح بل يرسم معالمه بوعي استراتيجي يربط بين كفاءة المؤسسات وعدالة الأحكام وكرامة المواطن كما يؤكد جلالته دائما على أهمية العدالة الإنسانية الحديثة وإصلاح السياسة العقابية بما يحقق الإنصاف ويعزز ثقة المجتمع بالقضاء النزيه والمستقل

خلال لقاء جلالة الملك مؤخرا مع رئيس وأعضاء المجلس القضائي الأردني اكد على أهمية تطوير العدالة الجزائية وتوسيع نطاق تطبيق العقوبات البديلة في إطار رؤية إصلاحية شاملة تستهدف تعزيز ثقة المواطن والمستثمر بمؤسسات العدالة وسيادة القانون وقد شدد جلالته على أن القضاء المستقل والعادل هو الركيزة الأساسية لتقدم الدولة وحماية الحقوق وصون الحريات كما اشار إلى ضرورة تسريع إجراءات التقاضي وتبسيطها دون الإخلال بجودة الأحكام وعدالتها وتطوير التشريعات والإجراءات القضائية بما يتواكب مع التطور التكنولوجي ومتطلبات العصر

الدعوة الملكية المستنيرة إلى توسيع تطبيق العقوبات البديلة تأتي تتويجًا لمسار إصلاحي بدأ منذ أعوام في الأردن حين تم إدخال هذه الفلسفة القانونية المتقدمة عام 2018 ضمن تعديلات شاملة على قانون العقوبات سمحت للقاضي باستبدال عقوبة السجن بعقوبات مجتمعية تحقق الغاية الإصلاحية دون المساس بجوهر الردع ومنذ ذلك التاريخ صدرت آلاف الأحكام الجزائية التي تضمنت عقوبات بديلة وقد أثبتت التجربة نجاحها العملي في الحد من الاكتظاظ داخل مراكز الإصلاح والتأهيل وفي تقليص كلفة الإنفاق العام على هذه المراكز

فكرة العقوبات البديلة تقوم على مبدأ أساسي مفاده أن العدالة لا تقتصر على معاقبة الجاني بل تمتد إلى إصلاحه وإعادة تأهيله ليصبح فردًا صالحًا ومنتجًا في المجتمع والبدائل التي تُمنح للمحكوم قد تتخذ شكل الخدمة المجتمعية أو العمل التطوعي في مؤسسات عامة أو بلديات أو دور عبادة أو الخضوع لرقابة إلكترونية أو برامج تأهيل سلوكي ونفسي وهي أدوات قانونية تسعى إلى دمج المحكوم في المجتمع بدل عزله لتحويل العقوبة من عبء اجتماعي إلى فرصة لبناء السلوك وتقويم الذات كما أن هذا النمط من العقوبات يحمي المحكوم عليه من الاحتكاك المباشر بأرباب السوابق داخل السجون ويحول دون تأثره بعلاقات منحرفة أو اكتساب سلوكيات إجرامية جديدة قد تقوده لاحقًا إلى جرائم أكبر وأعمق

الدراسات المتعددة الصادرة عن وزارة العدل تشير إلى أن تطبيق العقوبات البديلة أسهم في تخفيف الضغط عن السجون بنسبة ملموسة وقلل من معدلات تكرار الجريمة حيث أثبتت التجربة أن المحكوم الذي يقضي عقوبته في بيئة منفتحة ومنضبطة يخرج أكثر استعدادًا للاندماج في المجتمع وأقل ميلًا للعودة إلى المخالفة كما أن هذه السياسة انعكست إيجابًا على أوضاع أسر المحكومين الذين تجنبوا الانقطاع المادي والمعنوي الذي يسببه السجن
من الناحية القانونية والإجرائية العقوبات البديلة تخضع لشروط دقيقة تضمن حسن تطبيقها وعدالتها فهي لا تُمنح إلا في حالات محددة وللجرائم البسيطة التي لا تنطوي على عنف أو تهديد للأمن العام ويشترط أن يبدي المحكوم استعدادًا جديًا للالتزام بمتطلبات الإصلاح وإعادة التأهيل كما أن الاستفادة منها عادة تكون مرة واحدة وتخضع لمتابعة رقابية من الجهات المختصة لضمان الالتزام الكامل بما تفرضه المحكمة من سلوكيات ومتطلبات

دعوة جلالة الملك اليوم إلى توسيع نطاق تطبيق هذه العقوبات تؤكد قناعة راسخة بجدواها وفاعليتها وتشير إلى أن الأردن يتجه بخطى واثقة نحو ترسيخ العدالة الإصلاحية التي تقوم على الإنصاف والرحمة وتغليب المصلحة العامة على النزعة العقابية كما تعني هذه الدعوة ايضا أن الدولة ترغب في جعل هذه التجربة نموذجًا عربيًا متقدمًا يتوافق مع المعايير القضائية الدولية في مجال حقوق الإنسان وسيادة القانون

من زاوية أخرى فإن توسيع تطبيق العقوبات البديلة يحمل أبعادًا اقتصادية واجتماعية مهمة إذ يخفف العبء المالي الكبير الذي تتحمله الدولة في إدارة مراكز الإصلاح ويفتح المجال أمام إعادة توجيه الموارد نحو مسارات التعليم والتدريب وبرامج إعادة الدمج كما يعزز مفهوم الأمن المجتمعي القائم على الوقاية والاحتواء بدل القمع والعزل والترهيب وهو ما يعكس فكرًا ملكيا قياديًا متقدمًا يؤمن بأن استقرار المجتمع لا يتحقق إلا بتحقيق العدالة الشاملة والمستدامة

حرص جلالة الملك على تطوير القضاء وإطلاق دعوته لتوسيع تطبيق العقوبات البديلة يجسد نهجًا أردنيًا متوازنًا يجمع بين الصرامة في تطبيق القانون والإنسانية في معناه والأردن وهو يسير بثقة نحو التحديث الشامل يقدم اليوم نموذجًا ناضجًا في العدالة المعاصرة ويؤكد أن دولة القانون ليست دولة العقوبة فقط بل دولة ( الفرصة الثانية ) والإصلاح والتطور وهو ما يكرس حقيقة صورة الأردن كدولة حديثة تحاكي المعايير العالمية في العدالة والإنصاف وسيادة القانون وأن التحديث المتواصل في المملكة لا يقتصر على السياسة والاقتصاد بل يمتد إلى جوهر الإنسان وحقوقه وكرامته باعتباره أساس نهضة الدولة وغاية وجودها

في ختام المشهد تبرز دعوة جلالة الملك لتوسيع تطبيق العقوبات البديلة كجزء لا يتجزأ من رؤيته الأعمق لبناء أردن جديد يتقدم بخطى متوازنة على مسارات التحديث الثلاثة ( السياسي والاقتصادي والإداري ) والإصلاح القضائي يبقى الضامن الحقيقي لنجاح كل إصلاح آخر والعدالة العصرية التي تجمع بين الردع والرحمة هي حجر الزاوية في بناء الدولة القوية العادلة التي أرادها الملك لأبنائه وللأجيال القادمة

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]








عدد المشاهدات : (769)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :