الوزني : بين واشنطن وسول: خريطة جديدة للسياسة النقدية العالمية


رم -

بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني

أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة

كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية

في المسرح العالمي ثلاثة مشاهد تتفاعل لترسم اتجاهات مفصلية جديدة في السياسة النقدية ومنظومة التمويل الدولي. هذه المشاهد تشكل مؤشر على تحوُّل بنيوي في موازين القوة الاقتصادية الضاغطة والمؤثرة في شؤون المال والتجارة الدولية. في المشهد العالمي الأول؛ الاجتماعات السنوية الأخيرة للصندوق والبنك الدوليين، بحضور نوعي عالمي من كافة الشركاء والفرقاء، وقد بدا واضحاً أنَّ المؤسستين الدوليتين يحاولان تلمُّس دورهما القادم في بيئة عالمية تتغيَّر بسرعة متوالية هندسية، وضمن إطار بدائل جديدة، ليست تنافسية فحسب، بل ذات شغف وتعاطف أكبر مع المجتمع الدولي، وخاصة في الدول الأكثر حاجة إلى ما تقدمانه من خدمات. وبالرغم من ذلك فقد جاءت توصيات المشهد في واشنطن تقليدية متكررة، تترواح بين نغمة الإصلاحات الهيكلية، وضبط الدين العام، وتعزيز الكفاءة المالية. بيد أنَّ الجديد في الطرح هو نزوع توصيات المؤسسات الدولية نحو التواضع والتقارب مع الدول المدينة، ذلك أنَّ المؤسستين لم تعودا اللاعب الوحيد في تمويل التنمية أو إدارة الأزمات، بل أصبحتا جزءاً من شبكة أوسع تتضمَّن الصين والهند وبنوك التنمية الإقليمية ومجموعات الجنوب–الجنوب، مثل بريكس وآسيان. ومع ذلك، تبقى الشرعية الدولية التي يملكها الصندوق والبنك ميزة لا يمكن الاستغناء عنها؛ فشهادة حُسن السير والسلوك التي يُصِرُّ عليها الدائنون وتمنحها المؤسستان ما زالت النافذة الوحيدة للدخول إلى خزنة أسواق المال العالمية.

أمّا المشهد العالمي الثاني؛ فتأتي الخطوة المكرَّرة الثانية التي اضطرَّ إليها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بخفض الفائدة 25 نقطة أساس، لتحمل دلالات عميقة حول السعي نحو الانعتاق من أطول فترة تشديد نقدي مرَّت على الاقتصاد العالمي، واستمرت منذ ثمانينيات القرن الماضي. القرار، بالرغم من تسييسه وتجييره لضغوط الإدارة الأمريكية الحالية، فإنه يعكس إدراكاً متأخراً، نوعاً ما، بأنَّ الاقتصاد العالمي ينأى بأعباء التكاليف التمويلية المرتفعة، ليس فقط على مستوى التمويل المؤسسي، ولكن أيضاً على مستوى قروض الأفراد. ويمكن القول إنَّ حالة «الركود الصامت» شكَّلت تهديداً واضحاً على مستويات الاستثمار والاستهلاك معاً. بيد أنَّ من المهم الإشارة إلى أنَّ قرار الفيدرالي الأمريكي لا يمكن اعتباره انفراجاً اقتصادياً بقدر ما يعبِّر عن مرحلة إعادة توازن، حيث باتت واشنطن تدرك أنَّ استمرار ارتفاع الفائدة يعني خسارة تنافسية أمام اقتصادات آسيا الصاعدة التي تموِّل نموها بأسعار تمويل منخفضة وسياسات نقدية توسعية.

وأخيراً يأتي المشهد العالمي الثالث في اجتماعات قادة منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ APEC في كوريا الجنوبية، وهو مشهد يكاد يشكِّل الاستشراف الحقيقي للنظام العالمي النقدي والمالي الجديد. فدول المجموعة الآسيوية، ومن يلتف حولها، ترسم فصول المسرح العالمي في العقد القادم بوضوح؛ فهي لا تتحدث عن آليات التكيُّف والتواؤُم مع المشهد الأمريكي القائم، بل تحدِّد آليات وممكنات ومحركات قيادة النظام العالمي الجديد. هذه المجموعة النوعية، والمُسيطرة بكل وضوح على العالم في الحجم الاقتصادي، والديمغرافي، والجغرافي، والجيوسياسي باتت قادرة على فرض نظام عالمي نقدي ومالي جديد بالكامل، فهي اليوم باتت تتحدث من الصين إلى الهند إلى كوريا وإندونيسيا واليابان، حول منظومة نقدية أكثر استقلالاً عن التسويات القائمة ونظام سوفت نحو استخدام العملات المحلية في التسويات التجارية، وعن إنشاء منصات دفع عابرة للحدود تقلل من هيمنة الدولار، سعياً وراء بناء مركز ثقل حقيقي قائم على الإنتاج والتبادلات التجارية. وذلك في الوقت الذي يحاول فيه القائمون على النظام العالمي الحالي الحفاظ على مراكزهم المالية عبر أسعار فائدة وسياسات نقدية أكثر مرونة.

المشاهد الثلاثة تشير بكل وضوح إلى أنَّ الاقتصاد العالمي يمرُّ بحالة من إعادة الهندسة المالية والنقدية؛ فالعالم لن يكون في الأجل المتوسط، إن لم نقل القريب، مركزاً واحداً للتسويات المالية. ولن يكون القرار الحصري في تغيير مستويات أسعار الفائدة، بما في ذلك كُلف الاقتراض أو عوائد الادخار، في يد جهة واحدة؛ ذلك أنَّ الاستقطاب النقدي والتمويلي بات يَظهر بشكل صريح بين كتلتي الشمال المُسيطر والشرق الطامح. ولعلَّ أدوات السيطرة المقبلة عالمياً لن تكون في يد أسعار الفائدة، وإنّما في الأدوات الرقمية، ومستوى وحجم التسويات المالية بالعملات المحلية، وأدوات التشاركية التجارية، والنزعات نحو الاستدامة والتمويل المستدام، وخاصة مجالات المصالح في قطاعَي الطاقة والمياه. العالم العربي أمامه فرصة نادرة لكي يكون جزءاً من النظام العالمي الجديد، عبر الاعتمادية المتبادلة وليس التبعية أو الاتباع، وهو ما يتطلَّب تموضع السياسات المالية والنقدية والاستثمارية بما يحقِّق مكانة مكتسبة بالجاهزية وليس بالتاريخ والجغرافيا.

[email protected]
أ.د. خالد واصف الوزني

أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة

كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية




عدد المشاهدات : (4902)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :