حرامي قديم .. وسرقة الزيتون من ذاكرة الأرض


رم - br>
على تراب لا ينام، وتحت سماء أنهكتها رائحة الدخان والدم، تتكرر فصول الحكاية كما لو أن الزمن يصر على أن يبقي الجرح مفتوحا. هناك، في قلب الأرض الفلسطينية التي لم تعرف يوما سوى الصبر والمقاومة، يعود اللص القديم بثوب جديد، محمولا على أكتاف جيش يرفع راية الدمار، ويظن أن الحديد يحرس الكذب إلى الأبد. كل حجر، وكل شجرة، وكل أثر على الأرض يروي قصة عن السرقة والخديعة منذ الأزل، والعالم يراقب بصمت ما يحدث، دون أن تهب رحمة.

اللصوص ذاتهم منذ القدم، السرقة في دمهم، والتزوير والاحتيال في تفكيرهم، لا عهد لهم ولا ميثاق، ولا يعرفون للإنسانية طريقا. بين أهل الحق والباطل تدور الحرب ذاتها، حرب لا تخمد نارها ما دام في الأرض زيتونة واحدة تقف شامخة رغم الدمار. وبين انفجار رصاص وقصف طائرات، يظل الفلاح يزرع الأرض، صامدا كما لو أن جذوره متشابكة مع جذور الزيتون نفسه، متحديًا الليل والنهار.

المستوطنون، وبدعم مباشر من جيش الاحتلال الإسرائيلي، يواصلون اعتداءاتهم على الأراضي الفلسطينية والمزارعين، يهدمون البيوت، ويحرقون الحقول، ويقطعون الأشجار التي شهدت على مواسم الخير لعقود. مع كل خطوة لهم، ينهار جزء من التاريخ، لكن الأرض تحت أقدام الفلاحين لا تزال حية، تتنفس، وتحتفظ بذكريات الأجداد. هذه الاعتداءات لم تتوقف يوما، بل تتكرر مع كل موسم حصاد، وكأن الأرض نفسها تستدعي الباطل ليختبر صبر أهلها.

وصلت وقاحتهم إلى حد سرقة محصول الزيتون وقطفه في وضح النهار، غير آبهين بدمعة الفلاح أو بعرقه الذي روى الأرض. كل ثمرة تسلب، وكل غصن يُقتلع، هو شهادة على جرائمهم اليومية، وعلى الجبن الذي يختبئ خلف رصاصهم وأقوالهم الزائفة. تحت أشعة الشمس الحارقة، يقف الفلاح، عرقه يختلط بالغبار، لكنه لا يرفع صوته إلا ليدعو الأرض أن تصبر، وأن تعطي الثمرة التي لا تُسرق بسهولة.

يسرقون البيض من تحت الدجاج، ويحلبون الأبقار كما لو أن الجريمة هواية يومية يمارسونها دون خجل. ثعالب متحركة تعرف الخبث بالفطرة، تنشر الفوضى كما ينتشر الدخان في الهواء، لا يتركون خلفهم إلا رمادا وخرابا. كأنهم بعوض قارس يمتص الدماء، لا يشبع، ولا يهدأ، والعالم كله يراهم ولا يجرؤ على إيقافهم. وبين كل هذا الخراب، تظل أصوات الطيور تحاول أن تغني، والرياح تهب لتسقي الأرض بالذكريات، وكأنها تقول إن الحياة أقوى من كل شر.

وفي زمن تراجعت فيه الأفعال أمام ضجيج الأقوال، وانشغلت الأمم ببطولات الكلام وطبول النفاق، يبقى الفلاح الفلسطيني وحده في الميدان، يواجه بيديه العاريتين جيشا مدججا بالسلاح. يزرع من جديد كلما اقتلعوا شجره، يصرخ عاليا هذه ارضي ، ولن تأخذوا من زيتوني إلا الغبار، بين كل غصن ينمو، وبين كل ورقة تتفتح، يعلن صمودا لا يصدقه أحد إلا من عاش هنا.

الزيتون هناك ليس مجرد شجرة، بل روح تسكن الأرض. جذوره تمتد في التاريخ كما تمتد الكرامة في وجدان الفلسطيني. ومن سرق الزيتون لا يعرف طعمه، ومن سرق الأرض لن يعرف السلام. لأن الزيت الذي يضيء قناديل الليل في القرى الفلسطينية هو زيت الصمود، يستخرج من صخر ودم وسماء وكرامة لا تنطفئ. كل قطرة منه تحكي عن تضحيات، وكل نقرة على الجذع تصرخ بعزيمة لا تموت.

وسيبقى الزيتون شاهدا على الخلود، شاهدا على أن السرقة لا تبني وطنا، وأن اللص، مهما تلثم بالعلم أو ادعى القداسة، سيبقى حراميا قديما مهما تغيرت الأزياء. سيبقى الفلاح هناك، واقفا بين الغصن والرصاص، بين غصن محترق وآخر مثمر، يزرع من جديد، يبتسم رغم الألم، كأنه يكتب على وجه الأرض وصية البقاء. رحم الله الشهيد الشاعر ابراهيم ابو ندى عندما قال في جداريته الخالدة : ثبت جذورك في التراب فانت باق ها هنا الارض ارضك يا فتى هذي البلاد بلادنا هم جهلة لا يعلمون.
قد تسرقون الثمر، لكن الجذور باقية هاهنا، والجذور لاتموت .



عدد المشاهدات : (4329)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :