كتب علي السنيد:
فشل الحكومات في مواجهة متوالية الفقر، والبطالة ، والارتقاء بالواقع الاقتصادي المؤلم للاردنيين هو ما بات يشكل قلقاً عاماً في الاردن، ويدعو للحذر من مخاطر تراكم شعور العجز والوهن في جيل الشباب الذي فقد احلامه في الحياة.
وتفشي الفقر يحطم امال المجتمعات، ويتركها نهبا للمشاعر السلبية، والمستقبل المظلم.
وفي هذا السياق اسوق قصة أحزنتني لأحد موظفي الدولة البسطاء، والذي يقطن في احدى القرى الوادعة، ويحدث أن يتعرض في منتصف الشهر إلى زيارة مباغتة من قبل شقيقته ، وكان لا يحمل في جيبه من بقايا راتبه سوى خمسة دنانير، فيلوذ إلى محل بيع الدواجن في الجوار ليشتري بأربعة دنانير، ونصف طيرا من الدجاج ، ثم يعود مسرعا إلى بيته ليقوم بأداء واجب الضيافة.
وإلى ذلك تخبره الزوجة بعدم توفر مادة الأرز ، وبعد جهد يتم تجميع "الفراطة" المتبقية في المنزل اضافة الى النصف دينار التي بحوزته لشراء كيلو واحد من هذه المادة الرئيسية ، ثم وبعد دقائق معدودة من وضع الطبخة على الموقد يحدث، ومن سوء طالعه أن تنفذ "جرة الغاز" ، وتخفت ذبالته إلى أن ينطفئ.
يهم الرجل لوهلة برمي نفسه من فوق سطح العمارة التي يسكن في احدى شققها المستأجرة، إلا انه يحسم خياره بأن يهيم على وجهه في الزقاق، ويأخذ بالحركة جيئة وذهابا.
وبعد مضي نحو عشرة دقائق يلتفت إليه جاره صاحب المحل التجاري فيسأله عما يتسبب له بكل هذا الضيق الذي يظهر من تشتته، وحركاته المضطربة ، عندها يخبره بأزمته المتمثلة في عدم توفر جرة غاز في المنزل لإتمام واجب الضيافة لأخته التي لا تدري بما ينتابه في هذه اللحظات ، ويعرض هاتفه النقال كرهن نظير الحصول على ثمن الجرة ، ولم يكن بمقدور الجار سوى أن يهب لنجدة جاره الفقير بالمبلغ المطلوب، وان يحثه على المغادرة بسرعة كي لا تلحظ أخته غيابه ، وربما كي لا يرى حالة الانكسار في عينيه، وطالبه بالاحتفاظ بهاتفه، وتأجيله لضائقة أخرى.
هذه القصة المؤلمة تختصر في جانب منها حياة الناس البسطاء في الارياف التي تمتلئ عزة ، وكبرياءاً وطنيا ، وكذلك في الاطراف، والقرى ، والهوامش، وخواصر الدولة الضعيفة، وحيث يمتد خارج عمان عالم مريع من الفقر والحرمان.
واعرف ان نواحي اردنية عزيزة علينا باتت تستدين فيها بعض الاسر الخبز على دفتر الدين، وهنالك امهات يشترين فوط الاطفال الصغار بطريقة الفرط، وذلك مراعاة لظروف الاب الذي يعجز عن شراء كيس فوط باكمله ، ناهيك عن بيوت تعاني الامرين من اجل توفير لقمة العيش لاطفالها ، او تزويدهم بالمصروف المدرسي اليومي.
ومن الاردنيين من يجد مشقة في ادامة عملية ملء جرة الغاز لاغراض التدفئة اثناء فصل الشتاء، او توفير الكاز، وبعض الاباء يبكي من قلة ذات اليد، ويعلن عجزه التام امام الديون ومرارة الحاجة.
ومن كرام الاردنيين متقاعدون عسكريون يقطعون المسافات يوميا او كل يومين مرة، ويتحركون من محافظة لاخرى كي يعمل احدهم موظف امن لا يزيد راتبه عن 250 دينارا ، ولكي يؤمن راتبا تكميليا يساهم في الوفاء بمتطلبات اسرته، وتعليم ابنائه، ولكي يبقى بيته مستورا.
وهنالك رجال فقدوا طعم الحياة، وتجرعوا مرارة الذل في سبيل تعليم ابنائهم في الجامعات، ولم يتركوا جهة اقراض، او بنكاً ، او جمعية خيرية الا وطرقوا بابها، وكثيرون منهم باعوا ما يملكونه من الارض الموروثة عن ابائهم، ولتسفر هذه المرحلة الصعبة عن جيل كامل بات بلا امل كما صرح مؤخرا رئيس هيئة الخدمة المدنية ، والادارة العامة.
ولا شك اننا نحمل بين جنباتنا نحو ربع مليون اسرة مستورة تعيش على ما تتقاضاه من صندوق المعونة الوطنية ايضاً، وتتعاطى مع الحياة، وازماتها بالحد الادنى.
وهؤلاء الاردنين الصابرون على نكد الحياة تظل تطرق اسماعهم اخبار الرفاهية، والحياة الاسطورية التي تعيشها النخبة، ومن اعضائها من تحولت بهم الاحوال بعد عدة سنوات قضوها في الوظيفة الرسمية ليدخلوا سراعا الى نادي اصحاب الملايين، ويحوزون القصور، والمزارع، والاراضي ، و الشركات.
وفي المقابل تطل صور مقلقة للفقر والحرمان في غالبية القرى الاردنية، وتتراءى على وجه الوطن الحزين، ويحضر الفشل الذريع في دفع عجلة التنمية للامام ، وازدياد عزوف المال المحلي المستقر في البنوك، وتجنبه للعمل في السوق ، وذلك مخافة الاخفاق والخسارة.
وهنالك من المستثمرين الاردنيين من غادر من صعوبة الاجراءات، واستقر في بلد اخر، وذلك بالنظر الى عدم بناء بيئة اسثمارية جاذبة.
وفشلت وزارات العمل المتعاقبة حتى في تنظيم سوق العمل المحلي لصالح الاجيال الشابة الاردنية ، والذي ادى الى سيطرة العمالة الوافدة على الجزء الاكبر فيه.
وكان هذا الخلل الفادح نتاج سياسات الحكومات التي ضيعت العقود الماضية من عمر الشعب الاردني، ولم تكن تفكر بمستقبل الاجيال المتعاقبة.
وحتى غدت البطالة - التي هي العدو الاول لاستقرار الدول- وحشاً يهدد امننا واستقرارنا، ويشي بتفاقم مخاطر الوضع الداخلي، وقد تم غض الطرف عن كارثة مواصلة الجامعات في ضخ عشرات الالاف من الخريجين سنويا في ثنايا المجتمع الاردني، والذين تحولوا الى جيش من العاطلين عن العمل.
واليوم نقف امام التحدي الاقتصادي الاكبر الذي يهددنا ، ونحن في حالة عجز متواصل، وقطاعنا الخاص لم يحصل على التمكين، ونهرب من الاولويات التي تواجه الدولة الاردنية الفتية باجيالها الشابة الى مشاهد، واستعراضات حكومية لا تغني ولا تسمن من جوع.
وتغيب عن المسؤولين اولويات عملية الحكم ، والاسترتيجيات والرؤى الوطنية، فلا يتم متابعة الدور الاقليمي للاردن، ومحاولة استعادة المساعدات ، ومواصلة السعي لفتح الاسواق العربية، ولايجاد قنوات اتصال، وقاعدة للتكامل العربي.
ولا يصار لاقتطاع جانب من الوقت الرسمي للالتقاء بالمستثمرين الاردنيين والجاليات الاردنية ، و العربية في الخارج، وطمأنتهم بتصويب الاجراءات، ومنح الحوافز، ولايجاد مناخ استثماري جاذب لقدومهم للاردن، وتفعيل دورهم في تحريك عجلة السوق ، وتوليد فرص العمل لصالح الاجيال الاردنية الشابة، واحداث التنمية التي هي اساس عملية الحكم.
وبقي مشهد الخريجين الجامعيين الذين يعدون بمئات الالاف عالقا في عنق الدولة، وتتحطم احلامهم الوردية، وهم ينتظرون دورهم في سجلات ديوان الخدمة المدنية، وبعضهم متوقف طلب تخصصه منذ عشرات السنين من قبل اي جهة حكومية، والدولة لا تملك القدرة على التعيين سوى لعدة الا ف سنوياً في الجهاز الحكومي ، والذي يعاني اصلا من التضخم بسبب نوعية السياسيين الذين تولوا المسؤولية في الدولة الاردنية، ومارسوها من منظار المحاصصة ، والمناطقية، ولم يعيروا الاهتمام لوصول بند الرواتب الى اكثر من ثلثي الموازنة العامة، ولم يكن ليثير مخاوفهم التصاعد الجنوني للمديونية الخارجية، وتواصل عجز الموازنة العامة سنويا، واعتمدوا سياسة الارقام المضللة .
وهؤلاء هم الذين يمارسون فن التنظير بالوطنية على الشعب الاردني ، ويرفعون شعار الولاء والانتماء، ويشككون بوطنية المخالف السياسي.
وانا ادعوا الى مراجعة شاملة للمشهد الوطني، وان ترتقي الحكومة الى المتطلبات الوطنية الحقيقية في هذه المرحلة الدقيقة، ولتغادر مربع الشكليات التي وضعت نفسها فيه، ولتتنبه الى خطورة ما يصدر عن بعض مسؤوليها من تصريحات مفزعة للرأي العام، ومن نسب استطلاعات، وارقام غير دقيقة .
|
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
| الاسم : | |
| البريد الالكتروني : | |
| التعليق : | |