مشروع الموازنة العامة القادم .. هل من تفاؤل نحو الغد أم تكرار لماضٍ مألوف؟


رم -

ها نحن نقترب من محطةٍ مالية جديدة، يُعاد فيها صياغة هيكل الاقتصاد الوطني عبر مشروع الموازنة العامة للعام القادم 2026، الذي سيُرفع إلى مجلس الأمة قريبا لا بصفته جداول حسابية وعناوين إنفاق، بل بوصفه أطروحة سيادية تتقاطع عندها مقاصد النهضة مع اشتراطات الانضباط المالي، ويتحوّل فيها المال العام من تعبئةٍ للواقع إلى توليدٍ للمستقبل، فالموازنة ليست حياداً رقمياً ولا بياناً محاسبياً جافّاً؛ إنّها عقدٌ تشاركي مُلزم بين الدولة ومواطنيها، ووعدٌ تنمويّ يتعيّن أن يتحوّل من عباءة الخطاب إلى معترك التطبيق، حيث يدور اقتصاد الحياة لا اقتصاد الأوراق، لقد أنهكت قسوة الفقر صدوراً كانت تنبض بأحلام منتجة، واستنزفت البطالة أعمارَ شبابٍ لو مُدّ إليهم جسر الفرصة لكانوا للوطن سيفاً يذود ورمحاً يتقدم، أما آن الأوان أن تتخلّى الموازنة عن دور ميزانٍ مختلّ ينحاز إلى الاستهلاك، لتهتدي إلى دور جسر عبور يفضي إلى سعة التنمية ورحابة الازدهار؟ نعم، نريد موازنة تستنطق الشارع قبل غرف الاجتماعات المغلقة، تُصغي لنبض الاحتياج قبل ضجيج المصطلحات، وترصد الإنفاق حيث يثمر لا حيث يتبخّر، موازنة تُعيد تشكيل دور الدولة من منفقةٍ على الواقع إلى محركةٍ للمستقبل واماله؛ تتبنى الاستثمار المنتج لا التسكين المؤجل، وتُحوِّل المبالغ المرصودة إلى فرص عملٍ تتجسد، لا أرقامٍ تتجمد.


إنّ التجارب الدولية شاهدةٌ على أنَّ الأزمات ليست أقداراً مُغلقة، بل منصّات انطلاق للأمم التي تُحسن تحويل المحنة إلى منحة، فكوريا الجنوبية لم تبلغ صناعتها الوثّابة إلا لأنّها راكمت رأس المال البشري قبل المالي، واليابان كذلك نهضت من رماد الحرب لا بثراء مواردها بل بالثقة في عقل الإنسان وقدرته على إعادة خلق المعجزة، فهل نمتلك الجرأة ذاتها لإطلاق اقتصاد الابتكار والتحول الرقمي من أسر التصريحات إلى ساحات التطبيق؟ فلدينا قطاعات اقتصاديّة ليست عبئاً يُستتر عليه، بل موارد تتجاوز في قيمتها المنجم والمقلع،" فالصناعة تُصارع تكاليف الطاقة وتضارب التشريعات؛ اما السياحة تتوشّح ذهب الإمكان الكامن وتفقده بسوء التسويق؛ بينما الزراعة تُنتج بالكدّ لتبيع بالزهد؛ وريادة الأعمال تختنق عند بوابات التمويل ونوافذ الإجراء؛ اما التحول الرقمي رؤيته متقدمة، لكن خطاه لا تزال أقل سرعة من عصرها".


إنّ موازنة العام 2026 ليست تمريناً محاسبياً، بل لحظة انعطاف تستوجب سياسات جريئة تُعيد هيكلة سوق العمل ليكون للمواطن أولوية في وطنه، وتُفعِّل الشراكة مع القطاع الخاص بوصفها محرّك النمو لا ملاذاً عند العجز، كما تتطلّب إرفاق مؤشرات قياس واضحة صارمة تُحاسب الأداء القاصر، لا تُجمِّل الأرقام، ورسوم بيانية تُفصح عن أثر القرار على الفقر والبطالة والنمو دون مواربة، فلسنا نبحث عن المعجزة؛ بل نطلب أن يُستثمر في الأردني لينهض الأردن، فكل دينار يُضخّ في نماء العقول هو سهم سياديّ في بورصة الدولة لا يخبو ريعه ولا يعرف الهبوط، والعدالة في توزيع الموارد ليست ترفاً خطابياً؛ بل صمام أمان مجتمعي يحول دون تصدّع الداخل وارتجاف الثقة، فصناعة الغد لا تُناط بصدفةٍ عابرة، بل تُهندس بإرادةٍ جماعية تتعانق فيها عقول وسواعد الأردنيين مع سلطاتهم الدستورية، تحت بوصلة رُبّانٍ يقرأ الموج كما لو كان نصّاً مفتوحاً على احتمالات الخلاص، فالشراع الذي يعتنق الثقة درعاً له، لن تُخيفه العواصف مهما بدا هديرها مُفجعاً؛ والأزمات ذاتها ليست سوى مرايا صلبة تُرغمنا على استنطاق ما في أعماقنا من قدرةٍ على تحويل الوجع إلى موردٍ للتجدّد.


فلنرتقِ بالعام المالي القادم من كونه امتداداً لرتابةٍ موروثة، إلى إعادة هيكلة لسكون الواقع المالي والاقتصادي ، يعاد فيه توطيد العلاقة بين سلطات الدولة، المواطن، الموارد الوطنية ومُخرجات التنمية، فيكون الأردني بذلك شريكاً في حصاد الثمار، لا حاملاً وحده أوزار التعثر، فهذا الوطن الموهوب بقيادته الملهمة يمتلك من بصيرة التغيير ما يجعلها تقبض على دفة السفينة في ذروة اضطراب الموج، لا يخشى الانزلاق نحو المجهول، بل يحوّله مسرحاً لاختبار صلابة الرسالة، فلتكن قراراتنا بقدر ما يختزنه الضمير الوطني من طموح، وبحجم ما يسكن وجدان الأردنيين من يقين لا يشيخ، ولنمضِ نحو مستقبل لا يُنتظر… بل يُنتزع من قبضة التحديات بقوة الإرادة، وصرامة العزم، وسمو الرؤية.
أ.د غازي عبدالمجيد الرقيبات




عدد المشاهدات : (829)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :