غزة اليوم التالي بعد الحرب بصمة الصمود وإعادة رسم المعادلة


رم - بقلم الدكتور -فواز أبوتايه.

لم تكن الحرب الأخيرة على غزة مجرد جولة من جولات الصراع العربي الإسرائيلي بل كانت حدثا فارقا في الوعي الإنساني والسياسي العالمي فقد قدمت غزة إعجازا صنعته دماء أهلها وبصمة تركت أثرا في ضمير البشرية إذ تحولت من جغرافيا محاصرة إلى رمز عالمي للكرامة والصمود ورغم آلة الحرب الهائلة التي إستخدمها الكيان أثبتت غزة أن النصر ليس في ميزان السلاح بل في إرادة البقاء كانت حسابات العالم كلها خطأ بينما كانت حسابات غزة هي الحقيقة لم تنتظر المسيح المنتظر بل خاضت معركتها بإيمان وإبداع يشبه بطولات فيتنام والجزائر حين كانت الكلمة الأولى للشعوب لا للجيوش المنظمة.

رفع الغزيون شعارهم الذي تجاوز حدود المعاناة "نموت جوعا في خيامنا ولا نرحل عن أرضنا" في تلك البقعة الصغيرة سقطت كل شعارات العالم الحر وإنكشفت خطابات النخب والمثقفين الذين تجملوا بالحياد الإنساني فبان عجزهم الأخلاقي والسياسي في وجه الحقيقة لكن الحرب كما في منطق التاريخ لا تقاس بكلفتها بل بنتائجها وموازين القوى الجديدة باتت واضحة إسرائيل حربها حرب وجود وغزة أخر الحروب للشعب الفلسطيني فغزة لم تهزمها الصواريخ بل أنتصرت بوعي الشعوب ونجحت سردية القضية الفلسطينية في الضمير العالمي وفي المقابل أثبتت بعض أدوات المقاومة في المنطقة أنها أتقنت فن "قواعد الهروب" بالمفهوم العسكري أي إعادة التموضع والإختفاء المنظم لتفادي الخسائر دون كسر الإرادة وهو فن لا يتقنه إلا من فهم أن البقاء في الميدان ليس دائما بمعنى المواجهة المباشرة بل بقدرة الحركة على المناورة وحفظ القدرة القتالية لمرحلة أخرى هذه المدرسة في القتال جعلت المقاومة العربية أكثر نضجا ومرونة في التعامل مع التفوق التكنولوجي للعدو وفي خضم هذا المشهد برز صمت إيران كعامل سياسي محوري فإختفاؤها المفاجئ من واجهة الخطاب المقاوم لم يكن صدفة ولا ضعفا بل يحمل بعدا مركبا بين الإنتظار الإستراتيجي وحسابات البقاء الإقليمي فإيران التي طالما قدمت نفسها كراع للمقاومة إختارت هذه المرة أن تنسحب تكتيكيا من المشهد العلني في إشارة إلى إعادة ترتيب الأولويات أو ربما قراءة أعمق لمعادلة ما بعد غزة حيث يتغير شكل الصراع من ميداني إلى سياسي وفي المقابل أشار المبعوث الأمريكي في إحدى جلساته الخاصة إلى أن غزة والضفة الغربية ليستا شيئا واحدا فلكل منهما ثقافة ومجتمع مختلف وهو تصريح خطير يشي بمحاولة زرع مفهوم الإنقسام الجغرافي--الثقافي كمدخل سياسي لإسقاط حلم الدولة الفلسطينية الواحدة .

هنا يطرح السؤال الجدلي في صراع المشهد :-----
هل يراد لغزة أن تصبح إقليما مستقلا يعترف به دوليا كحل واقعي لوقف فكرة الدولة الفلسطينية وإذا حدث ذلك فما هي التداعيات على العلاقة مع الضفة الغربية والمجتمع الفلسطيني الأكبر وهل يمكن أن يؤدي هذا السيناريو إلى فصل الهوية الفلسطينية إلى كيانات متباينة تدار بشكل غير مباشر تحت ضغوط إقليمية ودولية ؟؟!!!

البعد العربي والدولي ستكون هذه الخطوة إختبارا حقيقيا لمصداقية المواقف فالعالم الغربي سيجد في الإعتراف بإقليم مستقل ذريعة لإحتواء النزاع وتقسيم المسؤوليات بينما الأنظمة العربية الرسمية ستكون أمام خيارين :------
إما دعم الشعب الفلسطيني وإعادة توحيد رؤيته أو الإكتفاء بالتعاطي الرمزي والخضوع للواقع الجديد هذا السيناريو الجدلي يطرح سؤالا أخلاقيا وسياسيا كبيرا هل ستقف الأمة مع غزة كشريك أصيل في حلم الدولة أم ستكتفي بمتابعة الحدث من بعيد في لحظة تاريخية فارقه أظهرت جيل جديد — Z الذي بدأ بدأ يصوغ وعيا سياسيا عابرا للحدود خرج من رحم الدم الفلسطيني ومن صور أطفال غزة تحت الركام هذا الجيل لم يعد أسير الإعلام الغربي بل أصبح يكتب روايته الخاصة عن العدالة والحرية ويعيد تعريف المفاهيم التي لوثتها السياسة والمصالح لقد صنعت غزة هذا الوعي ببصمة شهدائها تلك البصمة التي لم تسقط فقط السردية الإسرائيلية بل أسقطت أيضا أسطورة التفوق الأخلاقي الغربي وأعادت للعالم بوصلة الإنسان التي فقدها .

ختاما ما بعد غزة ليس مجرد مرحلة سياسية جديدة بل ولادة زمن عربي مختلف فالمواقف الرسمية التي راهنت على صفقات التطبيع وعلى ضعف المقاومة إكتشفت أن الشعوب ما زالت أقوى من بيانات القمم وأن غزة — المحاصرة جغرافيا — صارت مركز القرار المعنوي في عواصم العالم لقد فضحت الحرب هشاشة النظام العربي الرسمي الذي عجز عن مجرد صياغة موقف موحد وترك الميدان لأهل غزة ليكتبوا التاريخ بدمهم وباللحم الحي أنظمة كانت ترى في فلسطين عبئا سياسيا لا قضية وجود واليوم باتت تلك الأنظمة مطالبة بمراجعة نفسها قبل أن تراجع خرائطها لأن الشعوب لم تعد تصدق روايات "الواقعية السياسية" التي تبرر الصمت غزة لم تنتصر فقط على إسرائيل بل على زمن عربي فقد بوصلته ومن كان مع فلسطين دخل التاريخ أما من صمت أو تواطأ فسيبقى على خانة الهوامش إن غزة بما قدمته من دم وصمود لم تكتب نهاية حرب بل بداية وعي عربي جديد عنوانه أن الكرامة لا تفاوض وأن التاريخ لا يرحم والتغيير قادم .



عدد المشاهدات : (4327)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :