العنف الجامعي .. لا مكانة للحجر في أروقة الفكر" "


رم -



كأن بعضا من الجامعات أضحت مرايا متكسّرة تعكس وجوهنا لا كما نحن، بل كما خذلنا الفكر حين صمت، وكما انتصرت الغرائز حين نطقت، يتوالد العنف فيها كما يتوالد الليل من رحم الغروب؛ لا لأنّ الشمس غابت، بل لأنّ العقول أطفأت أنوارها طوعًا، في هذه الفضاءات التي كان يُفترض أن تُصفّى فيها المعادن الفكرية من شوائب الغرائز، نرى الموروث القبلي وقد تسلل من ثنيات الذاكرة إلى مقاعد الدرس، فحوّل السؤال إلى تحدٍّ، والنقاش إلى نزالٍ، والعقل إلى شاهدٍ صامتٍ على طقوسٍ بدائيةٍ ترتدي ثوب الحداثة، العنف الجامعي ليس فعلاً آنياً، بل هو انعكاس مجتمعيّ لوعيٍ مأزومٍ منذ المهد، فالأسرة الموقرة تلك النواة التي كان يُفترض أن تنفخ في الأبناء روح الحوار، غدا البعض منها مصنعاً لإعادة تدوير الانغلاق، تُلقّن أبناءها نشيد الموروث الأعمى، وتغرس فيهم جذورَ العصبية كما تُغرسُ شجرةً في أرضٍ لم تتعلم الإنبات إلا على صوت السيوف، في بيوتٍ تُقاس فيها الرجولة بحدة الصوت، وتُقاس الكرامة بعدد من وقف خلفك، ينشأ الفرد محروماً من اللغة، لا يعرف أن يقول “أنا أختلف”، فيصرخ بدلاً من أن يتكلم، وهكذا يُولد الطالبُ مشحوناً بميراثٍ من التوجس، يخافُ النقاش كما يخاف الطفلُ الظلام، فيستعيض عن الفكرة بالقبضة، وعن الكلمة بالعصبية، ثم تأتي الإدارة الجامعية بعد غياب، ككيانٍ لا يُرى إلا في هيئة العقوبة، بينها وبين الطلبة هوّةٌ من الصمت، لا يُمدّ فيها جسر الحوار إلا بعد أن يتكاثر الرماد، تتحدث بلغة القانون الجامد، بينما يحتاج الواقع إلى دفء الإصغاء، وما بين اللامبالاة البيروقراطية من فوق، والاحتقان المتوارث من تحت، يُترك الجمرُ ينامُ تحت الرماد، حتى إذا هبّت رياحُ حادثةٍ عابرة، اشتعلت الحقول بأكملها، وحين تقع العقوبة، لا تُقابلها مسؤولية، بل تُستدعى المحسوبية والواسطة كملاذ امن ، يختزل العدالة في ورقة توصية صغيرة، ويعيد تعريف الخطأ على مقاس القربى، وهكذا تُغتال العدالة وهي تبتسم، ويتعلّم الجيل أن القانون رأيٌ قابلٌ للتفاوض، وأن الحقّ لا يُستعاد بالحجة بل بالهاتف اوبجلسة مجاملة، فيتكرّس الضعف كقوة، والظلم كحيلةٍ اجتماعيةٍ مشروعة، ويُصبح التمرد على التشريعات نوعاً من “الفطنة” لا من الجريمة، إننا أمام منظومةٍ تُعيد إنتاج ذاتها من خلال تناقضاتها: أسرةٌ تخاف السؤال، جامعةٌ تخاف المواجهة، وإدارةٌ تخاف المسؤولية، أما الطالب، فهو نتاج هذا الثالوث المريض؛ نصفه طفلٌ يطلب الحماية، ونصفه الآخر وحشٌ يطلب الاعتراف، يتناوب في داخله الخضوع والتمرّد، كجدليّة هيغلية ناقصة لم تكتمل فيها مرحلة الوعي بالذات، العنف الجامعي، إذأ، ليس إلا عرضًا لخللٍ في مفهوم الهوية التربوية؛ هو تجسيدٌ لانفصالنا عن فكرة “المواطنة العاقلة”، ولانزلاقنا نحو بدائلها الطفولية: الانتماء القَبَلي، التفاخر بالعصبة، والاستقواء بالمكانة، ولأنّنا لم نعد نؤمن بالحقّ كقيمةٍ مطلقة، استبدلناه بالحقّ كامتيازٍ يُمنح، ولأنّنا لم نُتقن الإصغاء، صارت الساحات تتكلم بلهجة العصي والحجارة، ما العلاج إذا؟ هل في الخطابات ام في الكاميرات التي تُوثّق الشجار كما لو كان حدثًا رياضيًا؟ لا بل في أن نعيد بناء الوعي من جذوره؛ أن تتعلم الأسرة أنّ الحب لا يعني التبرير، وأنّ الحماية لا تعني التغطية، وأن تُدرك الجامعة أنّ الإصلاح لا يُصنع من فوق، بل يبدأ من الحوار الذي يسبق الانفجار، إن لم نُعلّم أبناءنا كيف يختلفون دون أن يَقتتلوا، فسنظلّ نحرس الرماد، وننتظر اشتعالاً جديداً،في كلّ جامعةٍ ، وتُمارس فيها الجاهلية باسم الشرف.

أ.د غازي عبدالمجيد الرقيبات



عدد المشاهدات : (854)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :