بعد انتهاء حرب غزة هل تنقلب معركة إسرائيل نحو الداخل ؟


رم - مهدي مبارك عبد الله

بعد عامين من حرب أرهقت إسرائيل وأوصلتها إلى أقصى درجات الانكسار يعيش الإسرائيليون حالة من الضياع النفسي والاجتماعي والسياسي فقرار الحكومة بقيادة نتنياهو بالتصعيد المستمر في مواجهة غزة وفتح جبهات متعددة من اليمن إلى الحدود اللبنانية خلق واقعاً مليئاً بالمخاطر والمفاجآت ولم يعد المواطن يعرف متى سيأتي الانفجار التالي أو من أين سيأتي التهديد القادم بعدما أصبح الخوف والرعب جزءاً من الحياة اليومية والقرار السياسي مشوشاً بين الطموحات المتطرفة والأولويات الواقعية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية ما جعل الدولة تواجه أزمة هوية حقيقية ولم يعد الحديث عن الانتصار العسكري كافياً لتبرير معاناة شعب بكامله

كيان الاحتلال يعيش اليوم لحظة مفصلية بعد توقيع اتفاق وقف الحرب في غزة خلال أكتوبر 2025 حيث يخرج الجميع من تحت الركام يبحثون عن ملامح انفسهم وعن معنى ما حدث خلال عامين من الانهيار والدمار حيث كانت الجبهة الجنوبية تلتهب بالصواريخ والأنفاق وكانت الضفة الغربية تغلي بعمليات نوعية أربكت الاحتلال في عقره ثم امتدت نيران الصراع إلى مسيرات اليمن وصواريخ حزب الله التي جعلت الشمال في حالة استنفار دائم كل ذلك ترك في الجسد الإسرائيلي جراحا عميقة وأثارا نفسية واقتصادية صعبة التجاوز

الركود الاقتصادي الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي ليس عارضاً بل هو نتاج مباشر لحرب طويلة استنزفت ميزانية الدولة وجعلت الإنفاق الدفاعي يتجاوز كل الحدود فيما تراجعت قطاعات السياحة والاستثمار والبناء وانكمش الشيكل أمام الدولار قبل أن يستعيد بعض عافيته ببطء شديد ومع ذلك فإن المعضلة ليست مالية فحسب بل نفسية واجتماعية فبعد عامين من التعبئة العامة وعودة عشرات الآلاف من جنود الاحتياط إلى بيوتهم يواجه المجتمع الإسرائيلي موجة من الصدمات النفسية والانقسامات الداخلية التي يصعب التئامها

نواب الكنيست من مختلف التيارات السياسية يدركون أن إسرائيل التي خرجت من الحرب ليست ذاتها التي دخلتها فاليوم هناك يمين متشدد يرى أن طريق التعافي يبدأ من الأمن والسيطرة الكاملة على الضفة وغزة والبلدات العربية ويمثل هذا التيار تسيفي سوكوت من حزب الصهيونية الدينية الذي يؤكد أن لا حديث عن ازدهار اقتصادي أو سياحي قبل إزالة التهديدات الوجودية وهو يرى أن الردع هو مفتاح النمو وأن الحرب لا السلام هي التي تصنع اقتصادا قويا هذه الرؤية تنسجم مع عقلية الدولة الأمنية التي تربط كل إصلاح بالتفوق العسكري المطلق وتعتبر أن استعادة السيطرة هي الطريق الوحيد لإعادة الثقة والقوة

أما التيار الحكومي المتمثل بحزب الليكود فيعبّر عنه أميت هاليفي الذي ينظر إلى المرحلة من زاوية الاقتصاد لكنه يعود في النهاية إلى المربع الأمني نفسه فهو يقر بأن العجز المالي تضاعف وأن الدين العام ارتفع بسبب الإنفاق العسكري لكنه يرى أن الحل ليس في فرض الضرائب أو سياسة التقشف بل في إعادة تعريف الأولويات الوطنية حيث يربط التعافي الاقتصادي بنتائج الحرب على غزة قائلا إذا لم نحقق السيطرة الكاملة ونضمن إنهاء التطرف فسندفع ثمنا أكبر بكثير من الدماء والأموال وهو يعتبر أن الهوية هي الأساس الذي يسبق الأمن والاقتصاد معا فالدولة من دون وضوح ذاتها وتماسكها الأخلاقي لن تنجو مهما امتلكت من سلاح وجيش

في المقابل تقدم النائبة إفرات رايتن من حزب الديمقراطيين اليساري رؤية مغايرة تماما لما ورد فهي لا ترى في الأمن بداية الطريق بل تعتبر أن المعركة الحقيقية الآن داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه بين من يريد بناء جدار أعلى ومن يريد إعادة بناء الإنسان وتصف الحرب بأنها كارثة روحية قبل أن تكون عسكرية وتنتقد فشل الحكومة في معالجة الجروح النفسية للجنود ولعائلاتهم وتقول إن إسرائيل بحاجة إلى هيئة وطنية لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي لأن كل مواطن أصيب بصدمة جماعية جراء حرب لم تعرف لها مثيلا وتضيف أن إعادة الثقة لا تكون بإعادة التسلح بل بإعادة الاعتبار لقيم الحياة والحرية والديمقراطية التي تضررت بشدة خلال سنوات القتال والانقسام

كما تحدثت رايتن أيضا عن أزمة التعليم وهجرة العقول وعن شباب احتياطيين ضاع مستقبلهم الدراسي وعن نساء وأطفال يعيشون في ظل القلق الدائم وترى أن العلاج يجب أن يكون شاملا من الصحة النفسية إلى التعليم المهني إلى إعادة تعريف معنى المواطنة في دولة تحولت إلى ثكنة عسكرية وتختتم قولها بأن العالم لن يعود إلى إسرائيل سياحا ومستثمرين إلا عندما يراها دولة حياة لا دولة حرب وموت وأن قوتها الأخلاقية الراسخة هي ما سيحفظ بقاءها لا تفوقها العسكري

في هذا السياق المضطرب يبدو أن إسرائيل مقبلة على معركة داخلية متعددة الأوجه من حيث الهوية والاقتصاد والذاكرة الجمعية فالمجتمع الذي عاش سنتين تحت الخوف لا يمكن أن يعود ببساطة إلى طبيعته السابقة والجيش الذي فقد هالته لا يمكن أن يستعيد هيبته بخطابات النصر الزائفة والحكومة التي انقسمت بين يمين متطرف ويسار ضعيف تواجه تحديا وجوديا في ترميم النسيج الاجتماعي الذي تفكك على وقع الصراع الطويل
إن ما يجري في إسرائيل اليوم ليس مجرد نقاش سياسي حول بنود الموازنة أو قواعد الأمن بل حول إعادة تعريف كاملة للدولة ذاتها وبين من يريدها قلعة مسلحة إلى الأبد وبين من يراها بحاجة إلى مصالحة مع نفسها ومع محيطها وكل التيارات رغم اختلافها تتفق على أن الحرب القادمة ليست في غزة أو لبنان بل في الداخل الإسرائيلي في النفوس والعقول وفي النظام السياسي الذي يعاني من التآكل وفقدان الثقة

قد تكون إسرائيل في الميدان نجت مؤقتا من صواريخ غزة ومسيرات اليمن وضغط الجبهة اللبنانية لكنها لم تنجُ بكل تأكيد بعد من تداعيات حربها النفسية والاجتماعية والاقتصادية فالمعركة الكبرى تبدأ الآن في الداخل من اجل البقاء كدولة لا كقوة فقط وإعادة تعريف المعنى الحقيق للوطن والشعب بعد أن فقدته في لهاثها المستمر وراء الأمن المطلق الذي لم يتحقق يوما

في النهاية تبدو إسرائيل أمام مفترق طرق داخلي لم تعد فيه الحدود والجبهات الخارجية المشتعلة هي التحدي الأكبر فالمعركة الكبرى الآن ستندلع بقوة في النفوس والعقول والنظام الاجتماعي والسياسي الذي انهار تحت وطأة الحرب الطويلة حيث أصبح على الدولة أن تختار بين الاستمرار في أسلوب الهيمنة والترهيب والعدوان الذي أوصلها إلى الانكسار أو إعادة بناء مجتمعها من الداخل مع التركيز على الهوية والثقة والاقتصاد والرعاية النفسية لمواطنيها فنجاح إسرائيل المستقبلي لن يُقاس بقدرتها على الغارات الجوية او إطلاق الصواريخ أو إقامة الحواجز بل بقدرتها على معالجة جراح شعبها واستعادة قوته الأخلاقية والاجتماعية وبناء نموذج دولة تستطيع أن تحيا بأمن وسلام لا أن تعتدي وتحارب فقط

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]





عدد المشاهدات : (1212)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :