رم - أ.د. علي حياصات
من دون استراتيجية واضحة، لا يمكن لأي دولة أن تصوغ مجتمعها أو تشكّل سلوكه وفق رؤيتها. لكن في الأردن، يبدو أن الاستراتيجية الوحيدة هي أن لا تكون هناك استراتيجية. فمرّة تُرفع شعارات الأحزاب والحياة السياسية المنظمة، ومرّة تُستدعى العشائرية كضمانة للاستقرار، ثم يُعاد الانقلاب عليها، لتكتشف الحكومات المتعاقبة فجأة مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والجمعيات والمنتديات...الخ، قبل أن تغلق أبوابها في وجه أي صوت يتجاوز المألوف.
هذا التقلّب المزمن في الاتجاهات والسياسات جعل المجتمع الأردني يعيش حالة ارتباك مستمرة، يتساءل فيها الفرد، إلى من أنتمي؟ وأي ولاء يُرضي الدولة فعلًا؟
ونتيجة لذلك، وُلد جيل جديد لا يعرف إن كان المطلوب منه أن يكون مواطنًا حزبيًا، أم عشائريًا، أم تابعًا لمصلحته الخاصة؟
علم الاجتماع يقول، إن الإنسان يبحث دائمًا عن انتماء يحميه ويمنحه هوية، سواء كانت أسرة أو عشيرة أو حزبًا أو مؤسسة. لكن السياسات المتقلبة للحكومات الأردنية أضعفت كل هذه المظلات، ودفعت الأفراد إلى البحث عن أمانٍ بديل في المصلحة الشخصية. ومع الوقت، تراجع الولاء الوطني لصالح الولاءات الصغيرة والمنافع الضيقة، وأصبح الانتماء فكرة مشروطة بالعائد، لا بالعقيدة أو القناعة.
أما الدولة، فلم تعد قادرة كما في الماضي على شراء الولاءات بالمناصب والغنائم. الامتيازات انكمشت لتطال فئة محدودة لا تتجاوز 2% من المجتمع، فيما تُركت الأغلبية في هامش الانتظار والخذلان. ومع انحسار أدوات السيطرة التقليدية، لجأت الحكومات إلى “ملف بديل” يشغل الناس عن الأسئلة الكبرى، فجاءت مبادرة وزير الداخلية الأخيرة حول “العادات والتقاليد” كمثال صارخ على هذا النهج.
فجأة، تحوّل النقاش العام من قضايا الفساد والبطالة والعدالة إلى الحديث عن الجاهات والعطوات والصٌلحات ومن اعطًى العروس ومن طًلبها؟!. وكأن المشكلة ليست في غياب التخطيط والحوكمة والشفافية، بل في طريقة لباس الناس أو تعبيرهم عن أفراحهم وأحزانهم. إنها محاولة جديدة للسيطرة على المجتمع عبر بوابة الأخلاق، بدلًا من إصلاح السياسة والاقتصاد. فحين تغيب الرؤية، يصبح ضبط السلوك أسهل من إصلاح الفكر، لكنه مع الاسف حتما سلوك مؤقت.
الحقيقة ، أن العادات ليست الخطر الحقيقي، بل غياب الاتجاه. ليست المشكلة في ما يرتديه الناس أو كيف يحتفلون، بل في افتقاد الدولة لمشروع وطني جامع يربط بين الهوية الاردنية الحقيقية والمواطنة والانتماء.
لقد أثبت التاريخ أن الشعوب التي تُقاد بالمنافع تتخلى عن سلطتها عند أول (كوًربه) ، وأن المجتمعات التي تُترك بلا بوصلة تنشغل بالقشور وتنسى الجوهر. وما لم تخرج الدولة الأردنية من دائرة إدارة الأزمات إلى صناعة الاتجاه والانتماء، فإنها ستبقى تدور في حلقة مفرغة من التناقض والتبرير.
المطلوب اليوم ليس إعادة إنتاج الماضي، بل إعادة تعريف المستقبل. ليس الدفاع عن العادات، بل الدفاع عن الفكرة الوطنية نفسها . فالدولة التي لا تحدد اتجاهها، ستجد نفسها يومًا بلا وجهة، حتى لو كثرت شعاراتها