التهجير المستحيل: كيف شكلت مصر والأردن وقطر جبهة إنقاذ للقضية الفلسطينية؟


رم - أحمد عبد الباسط الرجوب

لم تكن معركة "طوفان الأقصى" مجرد مواجهة عسكرية عابرة، بل اختباراً وجودياً للقضية الفلسطينية برمتها. فبينما كانت الدبابات الصهيونية تشن عدوانها الاجرامي على أحياء غزة، كانت معركة أخرى مصيرية تدور على جبهة السياسة والحدود، حيث وقفت القيادتان المصرية والأردنية كحائط صد في وجه أخطر مخطط صهيوني منذ نكبة 1948: التهجير الجماعي للشعب الفلسطيني من قطاع غزة.

المحور الأول: صفقة القرن والفرصة الضائعة

جاءت ما سُمي بـ"صفقة القرن" في ظل موقف عربي رافض تاريخياً لأي مشاريع تهجير. لم تكن تلك الصفقة مجرد خريطة سياسية، بل وثيقة لتكريس الاحتلال وشرعنة تهويد الأرض، بهدف تفريغها من سكانها وحل ما يُسمى "المشكلة الديموغرافية" لصالح الكيان الصهيوني.
مع اندلاع "طوفان الأقصى"، رأت الأجنحة المتطرفة في الحكومة الصهيونية أن "فرصة الحرب" قد حانت لتحقيق ما فشلت "صفقة القرن" في إنجازه. لكن الضغط العربي والدولي الناتج عن الموقف المصري الأردني الحازم، أجبر الحليف الأمريكي نفسه على الإعلان عن حدود الممكن.

المحور الثاني: الدهاء السياسي في مواجهة مخطط التهجير

برز الدور الأردني بقيادة جلالة الملك عبدالله الثاني خلال زيارته التاريخية إلى واشنطن في 12 فبراير/شباط 2025، واجتماعه بالرئيس الأمريكي ترامب في البيت الأبيض. جاءت الزيارة بعد طرح ترامب خطته الخاصة بغزة، والتي تضمنت سيطرة الولايات المتحدة على القطاع ونقل سكانه إلى دول أخرى بينها الأردن.
عندما سأله الصحفيون عما إذا كان الأردن مستعداً لاستقبال لاجئين من غزة، كانت إجابته نموذجاً في البراعة السياسية: لم يرفض أو يوافق، بل حوّل المسار بذكاء معلناً أن الأردن سيستقبل ألفي طفل فلسطيني مريض لتلقي العلاج، مؤكداً في الوقت نفسه على مبادرة عربية تركز على إعادة إعمار غزة بالتنسيق بين مصر والسعودية.
هذه الإجابة الاستباقية أفشلت محاولة جر الأردن إلى فخ التهجير، وعرضت بديلاً إنسانياً وسياسياً يحافظ على حق العودة ويحاصر المخطط الصهيوني. لقد حول الملك القضية من نزاع سياسي معقد إلى قضية إنسانية وأخلاقية واضحة، مؤكداً أن وجود الشعب الفلسطيني على أرضه خط أحمر.

المحور الثالث: السيادة الوطنية كخط دفاع أخير

إذا كان الخطاب السياسي سلاحاً ناعماً، فإن السيادة الوطنية كانت الحصن الحصين. تجسدت البطولة في الرفض القاطع والمتزامن من القاهرة وعمّان لفتح الحدود أمام تهجير الفلسطينيين. لم يكن هذا الموقف مجرد تصريح سياسي، بل قراراً سيادياً استراتيجياً يعادل انتصاراً في موازين القوى.
بالنسبة لمصر، يشكل تهجير الفلسطينيين إلى سيناء تهديداً وجودياً للأمن القومي، حيث لن يؤدي فقط إلى تصفية القضية الفلسطينية، بل يحول مصر إلى طرف مباشر في الصراع ويخلق بؤرة توتر دائمة. لذا كان رفض الرئيس السيسي دفاعاً عن مصر أولاً وأخيراً.
أما في الأردن، حيث يشكل الفلسطينيون نسيجاً اجتماعياً مهماً، فإن أي تهجير جديد يمثل تهديداً للاستقرار الداخلي وطمساً للهوية الوطنية. فكان قرار الأردن دفاعاً عن كيانه ومستقبله.

المحور الرابع: الدبلوماسية العربية: جبهة التفاوض ودور قطر

إلى جانب معركة الحدود، برزت جبهة دبلوماسية مهمة قادتها قطر باستضافتها مفاوضات وقف إطلاق النار. لم يكن الدور القطري مكملاً فحسب، بل أساسياً في إدارة الأزمة إنسانياً وسياسياً. وقد وصل الأمر بالكيان الصهيوني إلى استهداف هذا الدور عبر هجوم عسكري ودبلوماسي وإعلامي، في محاولة يائسة لتقويض جهودها الناجحة في كسر الحصار الدبلوماسي عن غزة وتحقيق تبادل الأسرى. هذا العدوان يؤكد نجاح الدور القطري في تعزيز الموقف التفاوضي العربي.

المحور الخامس: الوحدة في مواجهة المشروع الصهيوني

ما كان لصمود غزة أن يتحقق بهذه الصورة الأسطورية لولا الدعم السياسي والسيادي العربي. لقد امتزجت دماء أكثر من ستين ألف شهيد، وصبر أمهات وأطفال غزة، وحكمة القرار في عمّان والقاهرة، وجهود الدوحة الدبلوماسية. البطولة الميدانية لأهل غزة وجدت سندها الحيوي في الإرادة العربية والمقاومة الباسلة في اليمن ولبنان، التي منعت تحويل هذه التضحية إلى مأساة تهجير جديدة.

الخاتمة: انتصار الإرادة

كشف "طوفان الأقصى" أن مشاريع التصفية قد وصلت إلى طريق مسدود. فالموقف العربي الموحّد، بمحاوره الثلاثة: الحدودي المصري الأردني، والدبلوماسي القطري، كان العامل الحاسم في تحجيم المخطط الصهيوني. لقد أثبت الزعماء العرب أن الزعامة الحقيقية ليست في الخطابات النارية فحسب، بل في تحمل المسؤولية التاريخية واتخاذ القرارات الشجاعة التي تحمي الأمة من الهاوية.
يسجل التاريخ أن قرار الرفض هذا كان لحظة تحول في الصراع العربي الصهيوني. لقد أوقفوا بأيديهم آخر قطار للتهجير، وحفظوا ليس فقط ٦٦مستقبل فلسطين، بل جزءاً كبيراً من استقرار وأمن المنطقة بأسرها. إنها معركة الوجود التي انتصرت فيها الإرادة والسيادة.

باحث ومخطط استراتيجي



عدد المشاهدات : (4181)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :