حياصات يكتب : بين ياغي والعادات والتقاليد: العقل المتجمّد والعقل المبدع


رم -

أ.د. علي حياصات


في الأيام الأخيرة، تنافست وسائل الإعلام الأردنية والسعودية والفلسطينية على “نَسَب وجنسية” العالم الكيميائي عمر ياغي الحاصل مؤخرا على جائزة نوبل للكيمياء، كلٌّ يريد أن يضع اسمه على الإنجاز وكأنه شهادة ميلاد وطنية جديدة. هذا الجدل يكشف أكثر مما يخفي، فنحن لا نبحث عن جوهر الإبداع، بل عن الفخر الرمزي به. وبينما ننشغل بالسؤال عن “جنسية العالم ”، يطرح العالم المتقدّم سؤالًا آخر, كيف نصنع بيئة تنتج ألف عالم مثل ياغي؟
الإبداع في جوهره لا يولد من جنسيةٍ أو عِرقٍ أو جواز سفر، بل من بيئة تعليمية وبحثية حرّة وتحفيزية تحترم السؤال وتمنح الفرد مساحة للتجريب والخطأ. ياغي، مثل كثير من المبدعين العرب، هو ابن البيئة التي احتضنته علميًا، لا ابن الحدود التي وُلد داخلها. الجامعات التي فتحت له المختبرات، والمؤسسات التي احترمت عقله، هي التي صنعته ،لا الانتماء الورقي ولا الشعارات الوطنية.


وفي الوقت الذي يتسابق فيه العالم نحو الطاقة النظيفة والذكاء الصناعي واستكشاف الفضاء، ما زلنا في الأردن نستهلك وقتنا في نقاشات متكرّرة حول “العادات والتقاليد” في الأفراح والأتراح. لا مشكلة هنا في تهذيب السلوك الاجتماعي الجمعي، لكن الخلل في اتجاه التفكير لا في موضوع النقاش. فبينما يوجّه الآخرون حواراتهم نحو البحث العلمي والتعليم والابتكار، نحصر نحن اهتمامنا في المظاهر لا في الجوهر. الفرق بسيط لكنه جوهري، نقاشهم يصنع المستقبل، ونقاشنا يحرس الماضي.


الفارق الحقيقي بيننا وبين المجتمعات التي تُنتج نوبل ليس في الذكاء الفردي، بل في بنية التفكير الجماعي. هناك، الحوار يدور، حول كيف نُطوّر الجامعات؟ كيف نحفّز الطلاب على البحث؟ كيف نمول الابتكار؟.
أما هنا، فنقضي أسابيع في النقاش حول إطلاق العيارات النارية، وعدد “المناسف” في الأعراس والعزاء، وحجم الجاهات والصلحات وغيرها من المظاهر الاجتماعية التي تُرهق المجتمع دون أن تضيف إليه شئ. هناك، تُدار العقول نحو المستقبل، وهنا، تُدار الطاقات في صيانة الماضي.ولذلك، حين يخرج من بيئتنا مبدع مثل عمر ياغي، فإن أول ما نفعله هو أن نحاصره بالأسئلة ، من أي عشيرة؟ من أي مدينة؟ من أي جنسية؟ بدلاً من أن نسأله، كيف وصلت؟ وكيف يمكن أن نُكرر تجربتك داخل الأردن؟ بهذا التفكير، سيظل المبدع عندنا طارئًا، يُحتفى به عند النجاح، ويُنسى بعد نشر الخبر.


لقد آن الأوان أن ننتقل من مرحلة الفخر الرمزي إلى مرحلة البناء الحقيقي. من النقاش حول “العادات والتقاليد” إلى النقاش حول “البيئة التي تُنتج العلم”. فالمجتمعات التي تصنع العلماء لا تحتفل بأسماء أفرادها فقط، بل تبني أنظمة تجعل الابداع عادةً لا صدفة.
وحين نصل إلى تلك المرحلة، لن نختلف على “نَسَب ياغي”، لأننا ببساطة سنكون منشغلين بصناعة “ياغيين” جدد، لا بتوزيع شرف نسبهم.




عدد المشاهدات : (4716)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :