اختبار الهدنة ودور الأردن البنيوي


رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي

تبدو غزة اليوم وكأنها تقف على عتبةٍ بين حرب تستنزف كل شيء ومقاربة سياسية تحاول أن تنظم الفوضى. وتيرة النار تراجعت نسبياً من دون أن تختفي، والمسار التفاوضي الذي تقوده واشنطن ويواكبه وسطاء عرب يبحث عن صيغة عملية تبدأ بملف المحتجزين وتوسِّع الممرات الإنسانية، ثم تثبت وقفاً لإطلاق النار يراد له أن يفتح باب ترتيبات الإدارة والأمن. غير أنّ المشهد الميداني لا يزال قادراً على إرباك أي صياغة، لأن تفاصيل التنفيذ من جداول الانسحاب إلى ترتيبات السيطرة والرقابة هي التي تحسم صدقية أي اتفاق وليس عناوينه العريضة.

القضية الجوهرية ليست في إعلان النوايا بل في تسلسل الخطوات: من يضمن الهدوء أثناء التسليم والتبادل؟ كيف تُحمى قوافل الإغاثة في بيئة مكتظة وهشة؟ ومن يملأ الفجوة الإدارية والأمنية كي لا تُستولد فوضى مسلحة؟ لهذا يشاهد تلازم متعمد بين ثلاثة مسارات: تبادل المحتجزين، توسيع الممرات الإنسانية، وبناء مظلة حوكمة انتقالية تتفادى محظور “فراغ السلطة”. أي خلل في أحد هذه المسارات يجر المسارين الآخرين إلى التعطل أو الانفجار.
هنا يبرز الأردن بوصفه ركيزة عملية أكثر منه لاعباً شعاراتياً، عبر حدوده ومعابره وسلاسل إمداده، تحولت عمّان إلى منصة إغاثة وتجميع وتوزيع، تزود شرايين غزة بالغذاء والدواء والوقود حين تتعطل الطرق الأخرى، ان الخبرات التي راكمها الأردن في تشغيل مستشفيات ميدانية وإجلاء جرحى وتسيير قوافل تحت ضغط أمني، جعلت دوره “بنيوياً” في أي تهدئة: إذا رُفع إيقاع المساعدات تضاعفت الحاجة إلى بنية لوجستية موثوقة؛ وإذا تأخر التمويل أو تعطّلت المعابر صار الجسر الأردني صمّام أمانٍ للحد الأدنى الإنساني.
لكن دور عمّان لا يقف عند اللوجستيات، فثمة وظيفة سياسية هادئة تتجلى في ثلاث دوائر متداخلة:
أولاً، تنسيق عربي دولي يربط الملف الإنساني بالترتيبات الأمنية كي لا تتحوّل التهدئة إلى “هدوء هش” ينهار عند أول اختناق.

ثانياً، دفع مقاربة “التكنوقراط الفلسطيني” في إدارة الشأن اليومي للغزيين مع إبقاء القضايا السيادية الكبرى لمسارٍ تفاوضي أوسع، وهو ما ينسجم مع المقاربة الأردنية التاريخية التي توازن بين الواقعية الميدانية وضرورة الحفاظ على وحدة التمثيل الفلسطيني.

ثالثاً، تثبيت قواعد اشتباك حدودية تمنع تسلل النار إلى الداخل الأردني وتحافظ على الاستقرار الذي يعد رأس مال عمّان الأهم.
اقتصادياً، أي تثبيتٍ للتهدئة سيعطي الأردن متنفساً سريعاً: السياحة والتجارة تنتفع من خفض المخاطر الإقليمية. وعلى المدى المتوسط، قد يتحول “الممر الأردني” إلى مشروعٍ شبه مؤسسي لوجستي طبي إغاثي، يموَل دولياً ويمنح عمّان دور الميسر والمراقب معاً. في المقابل، فشل المسار أو تعثّره فترات طويلة يعني استمرار كلفة داخلية غير مباشرة: انكفاء استثماري، حساسية اجتماعية أعلى، وعبء أمني دائم يستنزف الموارد.



التهدئة أيضاً ليست مساراً أمنياً فحسب، بل اقتصاداً سياسياً معقداً؛ فطريقة تمويل إعادة الإعمار وآلية توزيع المساعدات ستحددان توازن القوى داخل غزة، وهنا تتأكد أهمية إشرافٍ عربي دولي متوازن يضمن أن تترجم المليارات إلى بنية حياة مستدامة لا إلى مشاريع نفوذ مؤقتة.

نجاح الترتيبات في غزة لن يقتصر أثره على القطاع ذاته، بل قد يُعيد رسم طبيعة التنسيق العربي الإقليمي حول إدارة ما بعد النزاعات، فالمقاربة الأردنية إذا ما تبلورت ضمن إطار مؤسسي مع مصر والسعودية والإمارات وقطر، قد تؤسس لنمطٍ عربي جديد في إدارة مناطق الأزمات دون ارتهانٍ للمبادرات الغربية، بل عبر نموذج “إدارة مشتركة محكومة بالنتائج” تعيد للدور العربي مركزه في هندسة الأمن الإنساني والسياسي معاً.
أما على مستوى غزة نفسها، فإن نجاح “المرحلة الأولى” هدوء ملحوظ، تبادل منجز، تدفق إنساني كبير ، سيفتح نافذة لإعادة هندسة المشهد: إدارة انتقاليةٌ محددة التفويض، رقابة ومساءلة على المعابر والمخازن، ومشاريع إنعاش سريعة تخاطب الحاجات الملحة للسكن والصحة والمياه والعمل. من دون هذا “الشق المدني” ستبقى أي تهدئة مهدّدة بالانهيار، لأن احتقان الحياة اليومية هو الوقود الأكثر قابلية للاشتعال. وهنا تتقدم عمّان مجدداً بدور “المزود الموثوق” للخبرة والكوادر والربط مع وكالات الأمم المتحدة، بما يحد من الفاقد الإداري ويسرع الإغاثة.
في المحصلة، ما يجري اليوم ليس مجرد اختبار لصلابة الهدنة، بل امتحان لقدرة المنطقة على الانتقال من إدارة الصراع إلى إدارة التحول. فإما أن تولد من رحم هذه اللحظة منظومة عربية أكثر نضجاً ومسؤولية، أو نعود إلى دورة مكررة تعيد تدوير الألم دون أن تنتج سلاماً قابلاً للحياة.
المشهد يظهر أن غزة أمام فرصة حقيقية لتغيير قواعد اللعبة، شرط أن تقترن الرؤية الواضحة بقدرة تنفيذ دقيقة وممنهجة. والأردن بخبرته وأدواته ووزنه هو الأكثر استعداداً لتحويل الهدنة من نصٍ تفاوضي إلى واقعٍ على الأرض: طائرات تسعف حين تغلق الطرق، قوافل تنساب حين تفتح النوافذ، وديبلوماسية تعمل بصمت لتثبيت كل ذلك في منظومة قابلة للاستمرار. إن نجح هذا المسار، ستربح غزة أولاً حقّها في الحياة اليومية، وسيربح الإقليم فرصةً لتبريد الجبهات واستعادة الاقتصاد. وإن تعثر، سنعود إلى حلقة يتقدم فيها الدمار أسرع من السياسة، وتدفع الشعوب وفي مقدّمها أهل غزة الكلفةَ الأعلى.



عدد المشاهدات : (4305)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :