رم - (ح13) مذكرات أخطر جاسوسة انجليزية (من 1907 – 1926)
Gertrude Lowthian Bell
ماذا كتبت عن الأردن وعشائره واهميتهما
ترجمة وتحليل وتعليق المؤرخ المفكر
د. أحمد عويدي العبادي (أبو البشر ونمي)
دكتوراه من جامعة كامبريدج البريطانية – 1982م
27 = رسالة عما بعد سقوط دمشق (1920) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
"كان خبر سقوط الدولة العربية في دمشق كالصاعقة على القبائل في الأردن. لقد كانوا يرون في الشريف حسين وأبنائه رمزًا لنهضة العرب، لكن الهزيمة أمام الفرنسيين أضعفت هذا الحلم سريعًا. لم أجد شيخًا واحدًا لا يتحدث بقلق عن المستقبل."
"في البلقاء، التقيت بشيخ من بني صخر، وكان يقول بمرارة: (ذهب الملك كما ذهب السلطان، ونحن باقون. الأرض لا تحكمها إلا سواعدنا). كانت عبارته تعكس يقينًا بأن الدولة، أيًّا كانت، تظل عابرة إذا لم تستند إلى قوة القبيلة."
"أما في الجنوب، فقد وجدت الحويطات في حال ارتباك. قال أحدهم: (قاتلنا مع الثورة، فماذا جنينا؟). لكن آخر قاطع الحديث قائلاً: (لا يهم من يحكم دمشق، ما دام رم والعقبة لنا). هنا كان الإحساس بالانتماء المحلي أقوى من أي مشروع سياسي واسع."
"في الأسواق، كان الناس يتحدثون عن البريطانيين والفرنسيين بلهجة حذرة. بعضهم قال إن الإنجليز أقرب، وبعضهم قال إن الفرنسيين سيحكمون بالقوة. لكن الأغلبية كانت ترى أن الأردن سيظل معلقًا بين القوى الكبرى، وأن القبائل هي وحدها الضامن الحقيقي للأمن."
"كتبت في دفتري: (سقوط دمشق لم يسقط الأردن. القبائل ما تزال متماسكة، لكن حلم الدولة العربية اهتز بشدة. على هذه الأرض، سيظل التوازن بين القبيلة والسلطة الأجنبية هو المحرك الأساسي للأحداث)."
28 = رسالة عن دخول الأمير عبد الله إلى معان (1921) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
"وصل خبر نزول الأمير عبد الله بن الحسين في معان كخبر جلل قلب الأردن رأسًا على عقب. فجأة، صارت البلدة الصغيرة التي لم تكن سوى محطة للحجيج والتجار، مركزًا سياسيًا يقصده شيوخ القبائل والوجهاء من كل صوب."
"حين دخلت معان، كانت الخيام منصوبة في أطرافها، والوفود تتوالى لمبايعة الأمير أو على الأقل لمعرفة ما يريده. رأيت رجالًا من بني صخر والحويطات والعدوان وغيرهم، كل قبيلة تحمل معها مطالبها وشروطها. كان المشهد أقرب إلى مؤتمر قبلي كبير، لكنه تحت راية جديدة."
"الأمير عبد الله بدا هادئًا، يستقبل الناس بابتسامة واثقة. قال في أحد المجالس: (جئت لأدافع عن بلاد العرب، ولأحمي هذه الأرض من أطماع الأجانب). كانت كلماته كافية لتكسب ودّ الحاضرين، لكنني شعرت أن التحدي أكبر من مجرد كلمات، فالأردن لم يعرف بعد سلطة مركزية تجمع القبائل."
"في حديث جانبي مع شيخ من بني صخر، قال لي: (الأمير ضيف كريم، لكننا سنرى إن كان يفي بعهوده. نحن لا نسلم أرضنا إلا لمن يحميها). أما شيخ من الحويطات فقال: (لقد قاتلنا مع الثورة، والآن نريد نصيبنا من الدولة). كان واضحًا أن الولاء مشروط بالمصالح القبلية، لا بالعاطفة وحدها."
"كتبت في دفتري: (دخول الأمير عبد الله إلى معان هو بداية فصل جديد. الأردن يقف بين القبيلة والدولة، بين الولاء المحلي والمشروع العربي. إذا استطاع الأمير أن يكسب ثقة القبائل، فستولد هنا إمارة جديدة. أما إذا فشل، فستبقى البلاد رهينة الفوضى)."
29 = رسالة عن تأسيس الإمارة (1921–1922) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
"منذ أن استقر الأمير عبد الله في معان ثم انتقل شمالًا نحو البلقاء وعمان، أخذت ملامح كيان جديد تتشكل. لم يعد الأردن مجرد أرض قبائل متفرقة، بل صار يُعرف باسم إمارة شرق الأردن، وإن كانت في بداياتها هشّة ومترددة."
"الأمير اجتمع برجال القبائل في أكثر من مجلس. رأيت شيوخ بني صخر يجلسون إلى جواره، يتحدثون عن المراعي والضرائب، بينما جلس شيوخ الحويطات يطالبون بنصيبهم من الغنائم والمناصب. كان الأمير يصغي بصبر، ويعِد بما يرضي الجميع. بدا لي أنه يدرك أن سلطته لا تقوم إلا إذا ربطها برضا هؤلاء الشيوخ."
"في الوقت نفسه، كان الضباط البريطانيون يزورون الأمير بانتظام. كانوا يقدمون له النصائح والدعم المالي والعسكري. أحدهم قال لي: (نريد شرق الأردن حاجزًا مستقرًا بين فلسطين والعراق). فهمت عندها أن الإمارة لم تولد من فراغ، بل من تقاطع مصالح داخلية وقوى خارجية."
"أما في عمان، فقد بدأت ملامح الإدارة تظهر. مبانٍ صغيرة أقيمت كمراكز للشرطة، ودوائر بسيطة لإدارة الشؤون. لكن تأثير القبائل ظل حاضرًا بقوة؛ فما إن يصدر قرار لا يرضيهم حتى يأتون جماعة إلى مجلس الأمير يطالبون بتغييره. كان الحكم خليطًا من الإدارة الحديثة والعرف القبلي."
"كتبت في دفتري: (الإمارة وليدة توازن حساس: الأمير يمثل الشرعية الهاشمية، القبائل تمثل القوة على الأرض، والبريطانيون يمثلون الدعم الخارجي. إذا حافظ هذا التوازن على استقراره، فقد يولد من الأردن كيان سياسي دائم. أما إذا اختل، فقد يتبدد كما تبددت محاولات سابقة)."
30 = رسالة عن استقرار الإمارة (1923) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
"لقد بدا هذا العام مختلفًا في الأردن. بعد أن اعترفت بريطانيا رسميًا بسلطة الأمير عبد الله، صار في البلاد شعور جديد بالاستقرار. لم يعد الحديث عن الفوضى أو الانقسام بين القبائل هو السائد، بل عن حكومة ناشئة تحاول أن تمد سلطتها شمالًا وجنوبًا."
"في البلقاء، لاحظت أن بني صخر صاروا أكثر قربًا من الأمير. قال لي شيخهم: (ما دام الأمير يفي بعهوده معنا، فنحن جنوده). كانت هذه لهجة مختلفة عن العام الماضي، حين كانوا يشككون في سلطته. بدا أنهم أدركوا أن مصالحهم تُحفظ ضمن إطار الإمارة."
"أما في الجنوب، فقد حضر وفد من الحويطات إلى عمان ليؤكد ولاءه. أحدهم قال: (الأرض أرضنا، والأمير أميرنا). لم يكن ذلك إعلان خضوع كامل، لكنه إشارة واضحة إلى قبولهم بشرعية جديدة ما دامت تراعي مكانتهم. لقد فهم الأمير أن استقرار الحكم لا يقوم إلا على احترام كبرياء القبائل."
"في عمان، كانت معالم المدينة تكبر شيئًا فشيئًا. مبانٍ حجرية جديدة أقيمت لإدارة الدولة، وبدأت طرق صغيرة تصل بين القرى والمدن. رأيت وجوهًا من مختلف العشائر وقد جاءت لتعمل في الوظائف الناشئة: الشرطة، الإدارة، وحتى في الجيش الصغير الذي يشكّله الأمير."
"كتبت في دفتري: (عام 1923 هو عام تثبيت الإمارة. القبائل دخلت في اللعبة السياسية بدل أن تبقى خارجها، والأمير صار رمزًا جامعًا، والبريطانيون وفروا الغطاء الدولي. لقد خرج الأردن من زمن البادية وحدها إلى زمن الدولة والقبيلة معًا)."
31 = رسالة عن تهديد الإخوان الوهابيين (1924) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
"رغم أن الإمارة بدت أكثر استقرارًا هذا العام، إلا أن الخطر لا يزال يلوح من الجنوب الشرقي. الإخوان الوهابيون الذين يتبعون عبد العزيز بن سعود أخذوا يرسلون غارات صغيرة على أطراف الصحراء الأردنية. لم تكن هذه الغارات واسعة، لكنها أثارت قلق القبائل والحكومة معًا."
"في معان، كان الناس يتحدثون عن الإخوان بلهجة خوف واحترام. أحد التجار قال لي: (إنهم يأتون كالريح، يغيرون بسرعة، ثم يختفون). أما شيخ من الحويطات فقال: (نحن نعرف أرضنا، لكنهم يعرفون كيف يقاتلون. لا بد أن نستعد لهم)."
"الأمير عبد الله اجتمع بعدد من الشيوخ ليطمئنهم. سمعت أنه قال لهم: (لن أسمح أن يدخل الإخوان أرضكم. أنتم رجالي، وأنا مسؤول عنكم). كانت هذه الكلمات كفيلة بأن ترفع من معنويات الحاضرين، لكنها لم تخفِ حقيقة أن التهديد قائم."
"في البلقاء، تحدث رجال من بني صخر عن استعدادهم لمواجهة أي غزو. قال شيخهم: (هذه أرضنا قبل الأمير وبعده. نحن نحميها بأمره أو بدونه). كان في كلامه مزيج من الولاء للقبيلة وللأمير معًا، وهو ما يعكس طبيعة الأردن في هذه المرحلة."
"كتبت في دفتري: (إن الإمارة تسير بين طريقين: من الشمال دعم بريطاني يجعلها تبدو مستقرة، ومن الجنوب تهديد وهابي يجعلها على حافة المواجهة. لكن ما يضمن بقاءها هو وحدة الأمير مع القبائل، فبدونهم لا سلطة له، وبدون سلطته لا يجدون غطاءً يحميهم)."
32 = رسالة عن أثر معركة السبلة (1925) / كتبت جيرترود بِل إلى أهلها تقول:
"بلغت أخبار معركة السبلة بسرعة إلى الأردن، وكانت حديث المجالس في عمان ومعان والبلقاء. انتصار ابن سعود على الإخوان بدا غريبًا للناس: فقد اعتادوا أن يروا الإخوان قوة لا تُقهر في الصحراء، لكنهم هذه المرة ارتدّوا مهزومين." (معركة السبلة وقعت في 30 مارس 1929م (18 شوال 1347هـ)، وتُعدُّ من أبرز محطات تاريخ المملكة العربية السعودية. شهدت هذه المعركة مواجهة حاسمة بين قوات الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود وجماعة "إخوان من أطاع الله" بقيادة فيصل بن سلطان الدويش وسلطان بن بجاد. وانتصر فيها املك عبد العزيز // المترجم)
"في البلقاء، قال لي أحد رجال بني صخر: (إذا كان ابن سعود قد هزم الإخوان، فهذا يعني أن زمنًا جديدًا بدأ في الجزيرة). كانت العبارة تكشف عن إدراك بأن التوازنات القبلية والسياسية في المنطقة كلها ستتغير."
"أما في معان، فقد كان القلق أكبر. بعض الحويطات تساءلوا: (إذا انتصر ابن سعود على الإخوان، فهل سيتوقف هنا أم سيمد نفوذه شمالًا؟). كانت هناك خشية واضحة من أن يتحرك باتجاه حدود الأردن."
"الأمير عبد الله بدا حذرًا، يجتمع مع شيوخ القبائل ويؤكد لهم أن الإمارة قادرة على حماية نفسها. لكنه في الوقت نفسه كان يدرك أن قوة الإمارة ما تزال قائمة على دعم بريطانيا، وعلى ولاء القبائل الذي قد يتبدل إذا شعروا بالخطر."
"كتبت في دفتري: (إن معركة السبلة لم تكن مجرد مواجهة في نجد، بل كانت حدثًا إقليميًا هزّ الأردن أيضًا. لقد جعلت القبائل تعيد حساباتها، وجعلت الأمير يوازن بين حلفائه البريطانيين وولاء قبائله. والنتيجة أن الإمارة بدت وكأنها في عين إعصار أكبر منها)."
انتهت (ح13) وتليها (ح14) وهي مواصلة نشر رسائل اخطر جاسوسة انجليزية