رم - إعداد: أ. د. محسن محمد صالح[*]
(خاص بمركز الزيتونة)
خلفية تاريخية:
* في أيار/ مايو 1939، أصدرت الحكومة البريطانية، التي كانت تحتل فلسطين منذ 1917، تعهّداً رسمياً (كتاباً أبيض) التزمت فيه بإلغاء وعد بلفور، وبإقامة دولة فلسطينية على كل أرض فلسطين خلال عشر سنوات؛ غير أنّها تراجعت عنه بعد الحرب العالمية الثانية في تشرين الثاني/ نوفمبر 1945.
* في 29/11/1947، أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين رقم 181، دون استشارة الشعب الفلسطيني الذي كان يشكّل 68.3% من السكان ويملك 94% من أرض فلسطين؛ بينما كان معظم المقيمين اليهود مهاجرين جاؤوا لفلسطين تحت الحماية البريطانية خلال فترة احتلالها لفلسطين.
* القرار 181 أعطى اليهود دولة على نحو 54.4% من أرض فلسطين، وأعطى الفلسطينيين دولة على نحو 45% منها؛ غير أنّ القوات الصهيونية مدعومة بالولايات المتحدة والقوى الغربية تمكّنت من احتلال 77% من مساحة فلسطين، وأعلنت عليها "دولة إسرائيل".
* الفلسطينيون أعلنوا استقلال فلسطين في 1/10/1948 واعترفت بهم معظم الدول العربية؛ غير أنّ الأردن قام بالسيطرة على الضفة الغربية وسيطرت مصر على قطاع غزة؛ وتمّ قطع الطريق على إنشاء دولة فلسطينية. وفي 1967، قامت القوات الإسرائيلية باحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة (باقي فلسطين) بالإضافة إلى الجولان السوري وسيناء المصرية.
* في 15/11/1988، أعلنت منظمة التحرير الفلسطينية استقلال فلسطين، بالرغم من السيطرة الفعلية الإسرائيلية عليها، واعترفت نحو 120 دولة بهذا الاستقلال.
* كان من المفترض بحسب اتفاقات أوسلو 1993، أن تؤدي المفاوضات بين منظمة التحرير و"إسرائيل" إلى قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولكن الطرف الإسرائيلي استخدم مسار التسوية لمزيد من تهويد الأرض والاستيطان، والإفشال العملي لإمكانية قيام دولة فلسطينية.
* في ضوء انتفاضة الأقصى التي اندلعت سنة 2000، اقترحت الإدارة الأمريكية خريطة طريق لإنشاء دولة فلسطينية مع نهاية سنة 2005؛ واتخذ اقتراحها دعماً عالمياً في سنة 2003، لكن الطرف الإسرائيلي أفشل المشروع.
* في 29/11/2012، حصلت فلسطين على وضع "دولة مراقب غير عضو" في الأمم المتحدة، بأغلبية 138 صوتاً؛ وهو يمثّل اعترافاً بحكم الأمر الواقع بدولة فلسطين ذات السيادة ضمن الأمم المتحدة.
* مع تشكُّل أشد الحكومات الإسرائيلية تطرّفاً في نهاية 2022 بزعامة نتنياهو وبالتحالف مع الصهيونية الدينية، ظهر توجه إسرائيلي واضح لحسم الصراع مع الفلسطينيين، وضمّ الضفة الغربية وإغلاق الملف الفلسطيني.
انعكاسات طوفان الأقصى والعدوان على غزة:
أحدث طوفان الأقصى منذ 2023/10/7 هزة هائلة، وجعل قضية فلسطين تتصدر الأجندة العالمية من جديد، وأحيا الدعوة إلى حلّ الدولتين، وإلى مزيد من الاعترافات بدولة فلسطين. ومع أواخر أيلول/ سبتمبر 2025 كان قد اعترف بها 156 دولة على الأقل، تمثّل نحو 81% من بلدان العالم الأعضاء في الأمم المتحدة (193 بلداً).
تميّزت موجة الاعترافات الجديدة بطابعها الأوروبي والغربي، حيث المعاقل التقليدية للنفوذ الإسرائيلي والصهيوني. ففي أيار/ مايو 2024، اعترفت إسبانيا والنرويج وأيرلندا بدولة فلسطين، تلتها سلوفينيا في الشهر التالي. وفي أيلول/ سبتمبر 2025، أعلنت كلّ من بريطانيا وكندا وأستراليا والبرتغال وفرنسا وبلجيكا ومالطا ولوكسمبورج وموناكو وأندورا اعترافها.
إعلان نيويورك:
عُقد مؤتمر دولي في نيويورك، على مستوى الأمم المتحدة، حول التسوية السلمية لقضية فلسطين وإنفاذ حلّ الدواتين في الفترة 28-30/7/2025 برعاية فرنسية سعودية. وتمكّن المؤتمر من تحشيد دعم دولي قوي باتجاه إقامة دولة فلسطينية، مع انضمام كتلة وازنة من الدول الأوروبية. وهو مؤتمر رفض العدوان على غزة واستهداف المدنيين، وطالب بإدخال المساعدات ومنع التهجير، وحاول أن يضع قطار التسوية على سكّته التقليدية التي سار عليها منذ أكثر من ثلاثين عاماً.
أبرز الإيجابيات:
1. يسهم تزايد الاعتراف الدولي بفلسطين في تصعيد الضغوط الدولية على الاحتلال الإسرائيلي، ومنعه من ضمّ ما تبقى من فلسطين.
2. تفرض هذه الاعترافات مزيداً من العزلة الدولية على "إسرائيل" وتُحوّلها إلى كيان منبوذ.
3. تصبُّ هذه الاعترافات والقرارات لصالح وقف العدوان على قطاع غزة ومنع التهجير وفكّ الحصار وإدخال المساعدات الإنسانية.
4. تنزع هذه الاعترافات الشرعيةَ عن الإجراءات الإسرائيلية في المسجد الأقصى وشرقي القدس، ومسارات الضم والتهويد والاستيطان والتهجير في الضفة الغربية وقطاع غزة.
5. تؤكد على دعم المؤسسات الدولية المعنية بالشأن الفلسطيني كالأونروا، والمؤسسات الإنسانية والإغاثية التي تسهم في توفير احتياجات الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال.
أبرز السلبيات:
1. تفتقر عملية الاعتراف لأي آليات جادة، ولا أي ضمانات لفرض إرادة المجتمع الدولي على الاحتلال الإسرائيلي؛ ولا توجد أي عقوبات مؤثرة أو قرارات مُلزمة (وفق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة مثلاً) لإجبار الاحتلال الإسرائيلي على الانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة والاستجابة لحل الدولتين.
وطوال 77 عاماً على إنشائها، ظلّت "إسرائيل" تتجاهل القرارات الدولية، وتضع نفسها "دولة فوق القانون" وهي مطمئنة إلى الغطاء الأمريكي لسلوكها. وحتى نيسان/ أبريل 2025، كان قد صدر 914 قراراً من الجمعية العامة للأمم المتحدة، و299 قراراً من مجلس الأمن الدولي، و98 قراراً من مجلس حقوق الإنسان… لم تحترم "إسرائيل" أو تنفّذ أيّاً منها!!
2. الدعوة إلى استئناف المفاوضات حول حلّ الدولتين واستئناف مسار التسوية، هي استرجاع عقيم للمسار الذي بدأ قبل 32 عاماً (سنة 1993) ولم يؤدّ إلى أيّ نتيجة، لأنه قائم على أُسس خاطئة غير فعّالة، تضمن للطرف الإسرائيلي استمرار الاحتلال وفرض الأمر الواقع، بانتظار الوصول إلى نتائج بحسب "حسن نية" الاحتلال، الذي تابع "إدارة المفاوضات" واستخدامها كغطاء لإنفاذ مخططاته.
3. تجنح العديد من الدول (خصوصاً الأوروبية) في اعترافها بدولة فلسطين إلى ربط ذلك بإخراج حماس من المشهد السياسي الفلسطيني، ونزع أسلحة المقاومة. وهذا في جوهره إجراء من طرف واحد يحقق أحد الأهداف الإسرائيلية الرئيسية من عدوانها على غزة. ولأن دول العالم تفتقر لأي آليات ملزمة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فإنّ ذلك سيعطي الاحتلال عمليا ًفرصة الاستمرار والاستقرار ومتابعة برامج التهويد والاستيطان دون مقاومة، وبالتالي متابعة شطب الملف الفلسطيني. وهكذا، ففي إعلان نيويورك الذي تضمّن دعم هذا التوجّه يتم مكافأة الاحتلال وتسهيل مهمته، بينما تتم معاقبة الطرف الفلسطيني الذي هو ضحية الاحتلال بدلاً من مساعدته.
هذا السلوك، معاكس للحقّ القانوني الذي أقرّته الأمم المتحدة بحق الشعب الفلسطيني في استعادة حقوقه بكافة الوسائل (انظر قرار 3236 سنة 1974).
4. إنّ ربط اعتراف عدد من الدول بفلسطين بإخراج حماس من المشهد السياسي ونزع أسلحتها، هو في حدِّ ذاته نوعٌ من فرض الوصاية على إرادة الشعب الفلسطيني وحقّه في تقرير مصيره وقراره المستقل. وهذا ربطٌ يُغذي الانقسام الفلسطيني، ويدعم طرفاً على حساب آخر؛ في الوقت الذي تشير فيه استطلاعات الرأي وعلى مدى السنتين الماضيتين إلى تصدُّر حماس وفوزها في أي انتخابات ديموقراطية نزيهة محتملة. ومن جهة أخرى، فإنّ تلك الدول لا تمارس الاشتراطات نفسها على الأحزاب الإسرائيلية التي ترفض حلّ الدولتين وتُصرّ على استمرار الاحتلال، وتدعو إلى "إسرائيل الكبرى"، وتمارس كافة أشكال القمع والقهر ضدّ الشعب الفلسطيني.
5. هذه الاعترافات للأسف لم تترافق مع أي إجراءات عملية لوقف الحرب في غزة ووقف المجازر وعمليات التدمير والتهجير الإسرائيلية. ورأى فيها بعض المراقبين هروباً من عددٍ من الدول الأوروبية من القيام بأخذ عقوبات مؤثرة ضدّ الجانب الإسرائيلي، وامتصاصاً لغضب شعوبها المتصاعد، من خلال إجراءات تفتقد القدرة على التأثير العملي الميداني.
6. ما طرحه مؤتمر نيويورك ومسار دعم الاعتراف بدولة فلسطين، يتضمّن السعي لإعادة تأهيل "إسرائيل" وإعادة إدماجها في المنطقة، وتفعيل برامج التطبيع؛ ويتجاوز محاسبة الاحتلال عن جرائمه ضدّ الشعب الفلسطيني، وسعيه لفرض هيمنته الأمنية على المنطقة. ويحاول "غسل" وتنظيف الصورة البشعة التي أظهرها الاحتلال للعالم في عدوانه ليس فقط على غزة، وإنما على باقي فلسطين وعلى لبنان وسورية واليمن وإيران وقطر.
خلاصة:
يبدو الاعتراف العالمي بدولة فلسطين خطوة في الاتجاه الصحيح، قد تُسهم في وضع مزيد من الضغوط على "إسرائيل" لوقف إجراءاتها في الضمّ والتهويد وشطب الملف الفلسطيني؛ ووضعها في حالة عزلة، والضغط عليها لوقف عدوانها على غزة. غير أنّ مجرد الاعتراف أثبت عدم نجاحه لأنّه لم يترافق مع أيّ قرارات دولية ملزمة ولا عقوبات مؤثّرة، تُجبر الطرف الإسرائيلي على الالتزام. كما أنّ الاعتراف لا يجب أن يتدخل في حقّ الشعب الفلسطيني في بناء مؤسساته التشريعية والتمثيلية والتنفيذية وفق إرادته الحرة، ولا مع حقّه القانوني الذي أكّده القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة في مقاومة الاحتلال بكافة الوسائل بما فيها الكفاح المسلح.