الطبّ النّفسي في مُواجهة خُبراء الوَهم


رم - د. لينا جزراوي


لماذا يلجأ الناس اليوم إلى مدربي الحياة أو ما يُعرف بـ “المعالجين غير المُتخصصين” بدلًا من الأطباء النفسيين؟

سؤال يفرض نفسه في زمن صارت فيه وسائل التواصل الاجتماعي مصنعًا يُنتج مُسميات لا حصر لها: مُدّرب حياة، مُعالج بالطاقة، خبير وعي، مُعالِج بالبرمجة العصبيّة ،وشيوخ يُعالجون الناس باستِخدام الدين والآيات الدينيّة !! وغير ذلك من الألقاب التي تصنعها حياتنا الرقميّة السريعة والمليئة بالزيف.

فما هي الأسباب التي تجعل الناس يَبتعِدون عن المُتخصّص ، ويلجأون لخبير مُزيّف يُسمّي نفسُه مُعالِج ، لا نعرِف من أين استقى خبرته العلاجيّة!!

فهل هو ارتفاع أسعار الجلسات النفسية، ما يجعلها بعيدة المنال للكثيرين!! أم ضعف الثقافة حول العِلاج النّفسي في المجتمع خوفًا من الوصمة الاجتماعيّة الّتي ربّما تُلاحِق المريض فيبحث عن بدائل “أخف وقعًا” من زيارة الطبيب !! أم أن السوشال ميديا قد ساهمت في تضخيم دور أشخاص غير مُتخصصين، يُقدّمون أنفسهم بخطاب مُنمّق، وابتسامة واثقة، وشهادات لا نعرف مصدرها ،ولا مِصداقيتها!!!!

الكارثة أن المشهد الرقمي بات غارقًا في “الزركشة والتلوين”: فيديوهات قصيرة، عبارات براقة، ووعود سريعة بالشفاء. يكفي أن يكون المرء مُتحدثًا جيدًا، ذا وجه بشوش، وأن يحصل على شهادة من دورة لا تتجاوز ثلاثة أيام – وربما من مؤسسة مجهولة – ليُقدّم نفسه كـ “خبير” قادر على انتِشال الناس من أزماتهم!!!

لا يمكن إغفال دور الإعلام في صناعة هذه الظّاهرة فبدلاً من أن يكون أداة توعية ورقابة، تحوّل في كثير من الأحيان الى مِنصّة تلميع . حيث تستضيف بعض هذه المَحطّات أشخاصًا غير متخصصين وتقدّمهم للجمهور بوصفهم خبراء في أنواع هذه العلاجات منها العلاج بالطاقة ، او مدرّبي حياة قادرين على معالجة الأزمات النفسيّة، والمُفارقة انهم يتحدثون بكلّ شيء ، العلاقات الزواجية ، العلاقات الأسريّة ، إدارة التوتّر ، الحب والصداقة والأمومة ،، مواضيع لا حصر لها !!!.

وبفِعل التكرار والبهرجة البصريّة يتلقّى المُشاهِد الرسالة على أنها حقيقة ، ويصبِح الإعلام - من حيث لا يدري أو ربّما يدري - شريكًا في تضليل الناس ومنح شرعيّة زائفة لمُدّعي التخصّص.

المُعضلة الأكبر أن كثيرًا من الناس في لحظة ضعف أو قلق أو حاجة ماسّة للفضفضة يقعون في شِباك هؤلاء، بينما يترددّون في طَرقْ باب العيادة النفسية خوفًا من التكاليف ،أو من نظرة المجتمع. والنتيجة، أنهم يدفعون مبالغ مالية مقدّمًا لجلسات لا تنتهي، ثم يكتشفون أنهم كانوا ضحايا عملية احتيال مُقنّعة.

إذن، من يتحمل المسؤولية عن هذا الواقع؟

هل هو المريض الذي ينجرف وراء الأوهام دون تدقيق؟ أم الأطباء النفسيّون الذين جعلت أسعارهُم المرتفعة العلاج حكرًا على القادرين؟ أم المُجتمع الذي لم ينجح بعد في كسر وصمة المرض النفسي؟ أم الجهات الرسميّة التي لم تضع بعد آلية واضحة لمُلاحقة المُحتالين والمُتاجرين بمُعاناة الناس؟

ما أعرفه أنني أرى يوميًا قِصصًا موجعة لأشخاص بحاجة لعِلاج نفسي حقيقي، فيجدون أمامهم دجالين أسرع وصولًا وأكثر انتشارًا من الاستشاريّين المُتخصصين. وفي ظل غياب رقابة جادة ووعي مُجتمعي أعمق، ستبقى هذه السوق الوهمية مفتوحة، يلتقط فيها “المُدربون” ضحاياهم بسهولة، بينما يظلّ الطبّ النفسي – العلم والخبرة الحقيقية – في موقع الدّفاع.

إن مواجهة هذه الفوضى لا تكون بجلد الضحايا أو إلقاء اللوم على طرف واحد، بل تحتاج إلى تكاتف عدّة أطراف ، المجتمع أولا ، عبر كسر الوصمة المرتبطة بالطبّ النفسي ونشر ثقافة طلب المساعدة من المُتخصصين.

الأطباء النفسيّون ثانيًا ، من خلال إعادة النظر في تكاليف العلاج وتقديم بدائل أكثر مرونة للمرضى. الجهات الرسمية ثالثًا ، عبر وضع تشريعات واضحة لملاحقة مُدّعي العلاج، ومنع استغلال حاجة الناس. وسائل الإعلام رابعًا ، بتسليط الضوء على خطورة هذه الممارسات، وتقديم محتوى توعوي رصين يفضح الأساليب الاحتيالية ، ويتحقّق من الأشخاص الذّين يستضيفهم في برامجه ، ومن عِلمهم ، واختِصاصهم. فلا يُساهِم بتضليل النّاس ، بدل أن يكون طريقهم نحو الحقيقة.

فالإنسان المُرهق من ضغوط الحياة يحتاج إلى دعم حقيقي، لا إلى أوهام مزيّنة ولا وعود زائفة. وحين يُعاد الاعتبار للطبّ النفسي بوصفه علمًا وممارسةً رصينة، يمكن عندها فقط أن نُقللّ من اتساع سوق الوهم التي تُتاجر بعقول الناس وأرواحهم.

* رئيسة الجمعيّة الفلسفيّة الأردنيّة




عدد المشاهدات : (4044)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :