رم - عاطف أبو حجر
الحنين أحيانًا أقوى من البرد، يكفي أن تطرق الذكرى أبواب القلب لتشتعل نار الدفء من جديد. تلك المواسم القديمة لم تكن مجرد فصول تمر، بل كانت قصصًا تُروى وحكايات تُحفر في الروح. في كل زاوية من الدار الفلاحية كان هناك صوت أو رائحة أو صورة تحفظ تفاصيل الحياة: صوبة علاء الدين، صفرة السمنة، والخبز الجافر، كلها رموز تختصر بساطة العيش وروحه. واليوم، كلما ابتعدنا عن تلك الأيام، ازددنا يقينًا أن الزمن مضى، لكنه ترك لنا إرثًا من الدفء لا يزول.
في زمن لم يعرف الإسراف ولا التبذير، كانت أبسط الأشياء تتحول إلى أيقونات للحياة اليومية، وتحمل حكايات عن الدفء والعمل والرضا. "صفرة السمنة"، مثلًا، لم تكن مجرد علبة فارغة تُرمى جانبًا، بل كانت شاهدة على رحلة طويلة في البيت الفلاحي القديم، تبدأ بتخزين السمنة وتنتهي بسدّ ثقب في السقف!
كتب الأستاذ كمال قطيشات قبل أيام منشورًا قصيرًا، لكنه أيقظ في الذاكرة عالماً كاملاً من الطقوس والعادات. أعادنا إلى أيام الدور الفلاحية ذات الأقواس في وادي الأكراد، وإلى ليالي كانون الباردة، حيث كانت الأم تشعل "صوبة علاء الدين"، وتضع عليها أحيانًا صفرة السمنة لتغلي الماء أو لسلق البيض والبطاطا. هناك، حيث يلتف الجميع حول الصوبة، يقحمشون الخبز اليابس ويغمسونه بالزيت والزعتر، في مشهد يختصر معنى الدفء العائلي.
لم تكن الصوبة وحدها بطلة المشهد، بل حتى تفاصيلها الصغيرة؛ فتيلة جديدة تُركّب كل شتاء، وقطع غيار تباع عند السمكري، ورائحة الكاز التي تملأ المكان، ووجوه الرجال الذين يعملون بجد لإبقاء نار البيوت مشتعلة. كانت الحياة وقتها أبطأ، لكنها أغنى بالمعنى. وحتى "صفرة السمنة" لم تُهمل، بل انتقلت من مهمة إلى أخرى: تسخين الماء، سلق الطعام، وعاء للزراعة، مدخنة للبوري، دلو لنشل الماء من البئر، كالوك لجمع التين، وأخيرًا قطعة تُستخدم لسدّ شقوق البيت أو طربوش للبابور بعد تثقيبها لتزيد الدفء.
وعلى ذكر بابور الكاز، حدثني الزميل الفنان فؤاد حجازي في لقائي معه ضمن برنامج نجم على الهوا، أن الفنان الراحل محمد وهيب لم يكن يتجلّى بالتلحين إلا على صورة البابور.
كانت فلسفة زمن مضى، حيث كان كل شيء يُستفاد منه حتى آخر رمق، وللروائح والأصوات والذكريات نكهة لا تتكرر: رائحة الكاز عند الغروب، بخار الماء المتصاعد من الصوبة، صرير حطب النقرة وسط مصطبة الدار الفلاحية وهو يحترق… كلها لغة حب ودفء لم نعد نجدها في حاضرنا السريع.
وها نحن اليوم نحاول أن نحيي بتذكرنا تلك الأيام التي سقاها الله بالحنين، أيام كان الشتاء أجمل، وأبسط التفاصيل تحمل طقوس الماضي العريق.
كانت قلوبنا تخفق بمحبة العيلة، وكانت أجسامنا تشعر بالدفا بلا تكييف مركزي، ولا فرشة طبية، ولا حرام حراري يعمل بالكهرباء. كنا ندمن لمة الأهل وحوطتهم، ونجد في قربهم دفئًا يفوق كل وسائل الراحة الحديثة.
لقد تغيّرت الأشياء من حولنا، لكن يبقى الدفء الحقيقي في لمة القلوب لا في دفء الأجهزة، وفي محبة الأهل لا في مظاهر الحياة. تلك الأيام كانت أجمل لأنها كانت صادقة وبسيطة.
رغم فقر الحال، وكانت عيوننا تشبع قبل بطوننا، بمحبة الأب وحنان الأم.