طاهر المصري… ظلّ زيتونة نابلسية في قلب عمّان


رم - في العام 1942، وُلد طاهر نشأت طاهر المصري في نابلس، المدينة التي تُعرف بجبل النار وبأهلها الذين صاغوا للتاريخ حكايات تجارة وعزيمة، حمل اسمه تيمناً بجده الحاج طاهر المصري، فيما والده نشأت المصري كان أحد رجالات نابلس المعروفين، وأمه لبنانية الأصل من أسرة الصلح العريقة، ذلك المزيج بين الجذور النابلسية والأفق اللبناني صاغ طفولته على إيقاع التنوع والانفتاح.

نشأ “أبو نشأت” بين أزقة نابلس، شاهداً على حرب 1948، وعلى وحدة الضفتين عام 1950، وعلى مدّ جمال عبد الناصر، وتأميم القناة، وانقلابات العراق، وحرب 1967، هذه الأحداث لم تكن عابرة في وجدانه، بل زرعت في داخله إيماناً عميقاً بفكرة الوحدة العربية، وإصراراً على أن السياسة ليست مجرد مناصب، بل مواقف تُختبر تحت النار.

من مقاعد كلية النجاح الوطنية في نابلس، شدّ رحاله إلى الولايات المتحدة، ليتخرج عام 1965 من جامعة تكساس ببكالوريوس إدارة أعمال، وهناك، قبل أن يعود إلى الوطن، كان قد رسم في ذهنه صورة رجل دولة يعرف قيمة المؤسسات، ويؤمن بالاقتصاد والسياسة كجناحين متلازمين.

بدأ مسيرته في البنك المركزي الأردني، فبقي فيه أكثر من عقدين، من 1965 حتى 1988، لكن السياسة جذبت الرجل الهادئ من خلف مكتبه إلى دهاليز الحكم والقرار، فدخل مجلس النواب أول مرة عام 1973، وهو بالكاد تجاوز الحادية والثلاثين من عمره، ليتسلم في حكومة زيد الرفاعي منصب وزير دولة لشؤون الأرض المحتلة، ومن هنا، انطلق نحو مسيرة امتدت عقوداً.

حمل حقيبة الخارجية مرتين، فكان سفيراً للأردن ولسياسته المتوازنة، وجال عواصم أوروبا والعالم من مدريد إلى باريس ولندن، ممثلاً للمملكة لدى الأمم، اليونسكو، والاتحاد الأوروبي. ثم عاد ليقف على رأس الحكومة الأردنية عام 1991 في لحظة إقليمية دقيقة أعقبت حرب الخليج، حين كان العالم يعيد رسم خرائطه، اختار أن يستقيل من رئاسة الوزراء حين اصطدم برفض أغلبية نيابية، مفضّلاً الحفاظ على التجربة الديمقراطية الناشئة على أن يحلّ مجلس النواب، ليقول للراحل الحسين: “المجلس خيار ديمقراطي، وأنا فخور بخدمة الأردن من أي موقع"، ذلك الموقف أصبح علامة فارقة في حياته السياسية.

تدرج المصري بعد ذلك بين مجلس النواب، حيث ترأس لجنة الشؤون الخارجية، ثم مجلس الأعيان، الذي وصل إلى رئاسته عام 2010، وعلى الدوام، كان صوته هادئاً، لكنه ثابت، يذكّر القريب والبعيد أن السياسة فنّ الصبر، وأن الرجولة ليست في الصخب بل في الموقف.

هو المتواضع الذي لا تفارق الابتسامة محيّاه، الرجل الذي وصفه الملك الحسين بن طلال بالقول: “ما تعاملت مع إنسان أشرف منك يا طاهر"، والربّان الماهر الذي لا يضيّع بوصلته مهما عصفت الرياح.

أوسمة الأرض والسماء زيّنت صدره، من وسام النهضة والكوكب الأردني، إلى أرفع الأوسمة الإسبانية والفرنسية والبريطانية والألمانية والإيطالية واللبنانية.، لكن وسامه الأهم بقي دائماً هو ثقة الناس، من شمال الأردن إلى جنوبه، من شرق الوطن إلى غربه، إذ حظي بقبول نادر من الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، كأنه قاسم مشترك وطني لا يختلف عليه اثنان.

طاهر المصري… ابن نابلس، ابن الأردن، رجل البنوك والديبلوماسية والبرلمان والحكومات، رجل المواقف الذي عاش نصف قرن بين السياسة والاقتصاد، لكنه ظلّ – كما يصفه المقربون – “ظلّ زيتونة نابلسية في قلب عمّان”، ثابت الجذور، عميق الظلال، لا يغيّره تبدّل الفصول.



عدد المشاهدات : (4773)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :