رم - مهدي مبارك عبد الله
في قلب القدس التي يتباهى الاحتلال بحمايتها وتحصينها دوى رصاص المقاومين الفلسطينيين ليهدم جدار الوهم الأمني ويعيد إلى الإسرائيليين كابوس الخوف الذي ظنوا أنهم دفنوه منذ الانتفاضة الثانية
الاحتلال الإسرائيلي لم يعد قادرا على الادعاء بأنه يسيطر على الأرض ويحتكر قرار الأمن فالمعادلة باتت تنقلب عليه يوما بعد آخر والصفعات تتوالى في عمق المدن التي ظن أنه أحكم قبضته عليها وما جرى في القدس في صباح الثامن من سبتمبر أيلول 2025 لم يكن مجرد حادثة إطلاق نار عابرة بل زلزال سياسي وأمني أربك القيادة الصهيونية وادخل الرعب في قلوب المستوطنين وفضح عجز المنظومة العسكرية والاستخباراتية وأعاد التأكيد على أن المعركة مفتوحة وأن يد الفلسطيني قادرة على الوصول إلى أبعد نقطة مهما اشتدت القيود والقبضة الأمنية
في ذلك الصباح الهادئ تمكن مقاومان فلسطينيان من تنفيذ عملية نوعية عند مفرق راموت في القدس المحتلة أسفرت عن مقتل ستة مستوطنين وإصابة أكثر من خمسة عشر آخرين بينهم حالات خطيرة وقد استخدم المنفذان سلاح الكارلو المحلي الصنع وأطلقا النار داخل حافلة متوقفة تقل مستوطنين قبل أن يرتقيا شهيدين برصاص جنود الاحتلال
خطورة العملية لا تكمن فقط في عدد القتلى والجرحى بل في رمزية المكان وطبيعة الرسائل التي حملتها فالقدس التي يفاخر الاحتلال بأنه أحكم السيطرة عليها منذ زمن بعيد عبر الحواجز والكاميرات والدوريات شهدت خرقا أمنيا غير مسبوق اكد أن عناصر المقاومة الفلسطينية قادرون على الوصول إلى العمق الاسرائيلي مهما بلغت الإجراءات الأمنية وأن استمرار الحديث عن مدينة محصنة لا يتعدى فرضيات الوهم الدعائي الذي يسوّقه قادة إسرائيل لجمهورهم والعالم
الأثر النفسي المريع لهذه العملية على المجتمع الإسرائيلي كان أكبر بكثير من أرقام الضحايا حيث أعادت إلى الأذهان حقبة العمليات الاستشهادية التي هزت الكيان خلال الانتفاضة الثانية حين كان المستوطن يخشى ركوب الحافلة أو دخول مطعم أو حتى السير في الشارع ومع هذه العملية وبعده تجدد هذا الرعب بصورة عملية بعد إطلاق نار داخل وسيلة نقل عامة وهو ما يعيد حالة عدم الأمان التي يحرص الاحتلال على محوها من ذاكرة مهاجريه دون جدوى
توقيت الهجوم بدوره جاء ليحمل دلالة بالغة فقد وقع بعد ساعات قليلة من وعيد وزير دفاع الاحتلال يسرائيل كاتس بفتح أبواب الجحيم على غزة حتى تستسلم المقاومة فجاء الرد الصاعق عليه من القدس له إن النار لن تكون محصورة في غزة وحدها بل ستمتد إلى قلب المدينة التي يدعي الاحتلال أنها عاصمته الموحدة والآمنة وهذه المفارقة تمثل صفعة سياسية وأمنية جعلت تهديدات كاتس ترتد عليه سريعا بخيبات الامل المتلاحقة
أما عن كيفية وصول المقاومان إلى موقع العملية رغم كثافة الحواجز فهذا يعكس قدرة المقاومة على استغلال الثغرات الأمنية التي يعرفها الفلسطينيون جيدا ويؤكد فشل جهاز الشاباك ( الامن الداخلي ) في التنبؤ أو الإحاطة المسبقة بالمنفذين خاصة وأنهما لا يملكان سجلات أمنية وهذه الحقيقة تزيد من قلق المؤسسة الأمنية لأنها تعني أن أي شاب فلسطيني قد يتحول إلى منفذ عملية في أي لحظة دون أن يكون تحت المراقبة المباشرة
السلاح المستخدم شكل بدوره رسالة إضافية للأجهزة الامنية الاسرائيلية بإن رشاش الكارلو البدائي المصنع محليا تحول إلى رمز للإبداع الفلسطيني في مواجهة الحصار والرقابة الأمنية فبضع قطع معدنية أعادت رسم خريطة الأمن في القدس وأجبرت الاحتلال على الاعتراف الضمني بأن فكرة نزع السلاح من الفلسطينيين ليست سوى وهم غير قابل للتحقق هذه المعادلة تجعل من كل ورشة صغيرة أو قطعة حديد خام مصدرا لقلق دائم يلاحق الاحتلال وقطعان مستوطنيه
المعادلة الأهم التي أفرزتها العملية هي أنها اعادت من جديد وحدة الساحات إلى الواجهة حيث برهنت أن مدينة القدس ليست منفصلة عن غزة ولا الضفة بعيدة معنويا عن القدس وأن أي عدوان اسرائيلي في اي منطقة سيجد انعكاسه في مناطق أخرى وهو ما يربك حسابات الاحتلال الذي يسعى منذ سنوات إلى عزل الجبهات بعضها عن بعض وتحييد الضفة تحديدا عن مسار المقاومة لكن الدم الفلسطيني يعيد وصل ما حاول الاحتلال فصله ليقى ملتزما في وحدة واحدة
على المستوى الاستراتيجي فإن عملية القدس هددت ركائز الدعاية الإسرائيلية أمام جمهورها في الداخل وأمام داعميها في الخارج فصورة الدولة القادرة على حماية مواطنيها باتت تتصدع يوما بعد يوم ومعها تنهار ثقة المستوطنين بالحكومة والجيش وهو ما يفسر تكتم الإعلام العبري على كثير من تفاصيل الخسائر ومحاولته صرف الأنظار نحو عمليات قصف استعراضية في غزة للتغطية على العجز الأمني في القدس
بعد كل عملية وللتغطية على الفشل والعجز يسارع الاحتلال إلى تطبيق سياسة العقاب الجماعي من خلال هدم منازل منفذي العمليات أو تشديد القبضة الأمنية إلا أن هذه الإجراءات لم تنجح يوما في وقف المد المقاوم بل على العكس فإنها تزيد من تصميم الفلسطينيين على التضحية وتدفع مزيدا من الشباب إلى خوض غمار المواجهة مهما بلغت التضحيات غالية فالبيوت يعاد بناؤها والأرواح تصعد إلى بارئها لكن إرادة المقاومة تظل متجددة لا تنكسر أمام الجرافات والقمع وفي السجون
امام بطولة وجراءة هذه العملية اصبح من العار أن يتطاول نفر من الأنظمة العربية الفاسدة ليصدروا بيانات إدانتها ويذرفوا دموع التماسيح على قتلى المستوطنين بينما يلوذون بالصمت المطبق أمام محارق غزة ويعجزون حتى عن كلمة عزاء لطفل فقد أسرته كاملة تحت الركام هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم ولا ينطقون إلا بلسان العدو ولو كان فيهم ذرة مروءة أو نخوة لوقفوا مع شعب يذبح صباح مساء لكنهم اختاروا أن يكونوا شهود زور يجمّلون وجه الاحتلال ويمنحونه غطاءً عربياً رخيصاً ليبرر مذابحه إنهم حقاً سقوط أخلاقي مدوٍّ وانحدار لا يضاهى وتاريخ سيجلدهم كما تجلدهم اليوم شعوبهم التي تعرف أنهم لا يستحقون سوى الاحتقار
اهمية هذه العملية تكمن اولا بانها وقعت في قلب القدس المحتلة حيث تركز الاحتلال جهوده الأمنية والاستخباراتية ويزعم أنه أحكم السيطرة على المدينة عبر الحواجز والكاميرات والدوريات فجاءت العملية لتفضح هذا الوهم وتقول إن المقاومة قادرة على الضرب في عمق العمق مهما بلغت الإجراءات
ثانيا لأنها استهدفت المستوطنين بشكل مباشر داخل حافلة وهذا يعيد إلى الأذهان صور العمليات الاستشهادية التي هزت الكيان خلال الانتفاضة الثانية ويزرع من جديد الشعور بعدم الأمان في المواصلات العامة، وهو كابوس حقيقي لإسرائيل لأنها تقوم على فكرة توفير الأمن للمهاجرين اليهود
ثالثا لأنها جاءت كرد فوري ومباشر على تهديدات يسرائيل كاتس بفتح أبواب الجحيم على غزة لتثبت أن أي وعيد إسرائيلي لن يمر بلا ثمن وأن الفلسطينيين قادرون على الرد من القدس ذاتها وليس من غزة فقط وهذا يخلط أوراق الاحتلال ويجعله في مأزق استراتيجي
رابعا لأن العملية نفذت بسلاح "الكارلو" المحلي الصنع ما يعني أن الاحتلال لا يستطيع منع تصنيع أو تهريب مثل هذه الأسلحة البدائية لكنها الفعالة وهذا يفتح الباب أمام موجة عمليات مشابهة يصعب التنبؤ بها أو إحباطها
خامسا لأنها تحمل رسالة وحدة واضحة بان القدس ليست بمعزل عن غزة ولا عن الضفة بل إن أي عدوان على جزء من فلسطين سيجد صداه في أماكن أخرى وهو ما يهدد الأمن الداخلي الإسرائيلي بصورة غير مسبوقة
الخلاصة : ان عملية القدس لم تكن مجرد حادثة عابرة بل محطة فارقة في مسار الصراع حيث وجهت ضربة موجعة لهيبة الاحتلال وكسرت وهم الحسم العسكري وأكدت أن الفلسطيني يملك دائما القدرة على ابتكار وسائل الكفاح والنضال مهما بلغت آلة القمع والرقابة الإسرائيلية وأن كل تهديد أو وعيد لن يجلب لإسرائيل أمنا بل مزيدا من الدماء والخوف والارتباك داخل كيان يترنح تحت ضربات مقاومة لا تعرف التوقف امام وحشية الظلم والعدوان ولهذا يمكن القول إن عملية القدس تعتبر الأخطر على المدى البعيد لأنها تضرب صورة إسرائيل كدولة آمنة في الصميم وتشجع على تكرار التجربة من قبل مقاومين آخرين وتفتح الباب أمام سلسلة عمليات مشابهة يصعب على الاحتلال وقفها
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]