الدوحة في مرمى الغدر الإسرائيلي غارة فاشلة ورسالة خطيرة !


رم -

مهدي مبارك عبد الله

في سابقة خطيرة من مظاهر الغطرسة واستعراض القوة تجاوزت كل الخطوط الحمراء أقدمت إسرائيل بالأمس على قصف قلب العاصمة القطرية الدوحة مستهدفة مقر قيادة حركة حماس السياسي في حي اللقطيفية لإيصال رسالة سياسية بالغة الخطورة تنذر بأن قواعد اللعبة في المنطقة تتغير وان اسرائيل لم تعد تعبأ لا بالسيادة ولا بالقوانين الدولية ولا حتى بأمن حلفاء واشنطن في الخليج حيث كانت الغارة اشبه بزلزالً سياسيً وأمنيً بكل المقاييس خصوصا وانها نفذت على مرمى حجر من قاعدة العديد الأمريكية الأكبر في المنطقة في لحظة مفصلية كانت قطر تضطلع فيها بدور الوسيط المركزي في مفاوضات وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى لكن المفاجأة أن الضربة التي أرادتها تل أبيب قاصمة تحولت إلى فشل ذريع بعد أن نجا قادة حماس الكبار من الاغتيال وسقط شهداء من المحيطين بهم بينهم ابن القائد خليل الحية وعدد من الحراس والمرافقين واحد عناصر قوى الامن القطري .

العملية التي شاركت فيها نحو خمس عشرة طائرة حربية أطلقت قنابل دقيقة أسفرت عن تدمير المبنى المستهدف لكنها لم تحقق هدفها السياسي والعسكري حيث خرجت حماس لتعلن أن وفدها المفاوض لم يصب بأذى بينما اكتفى الاحتلال بقتل مرافقيهم ليجد نفسه أمام صورة جديدة من الفشل والارتباك .

واشنطن بدورها سارعت إلى النفي وأكدت أنها لم تشارك في التخطيط أو التنفيذ للعملية لكنها اعترفت بأنها أُبلغت مسبقًا بها وتحركت لإخطار الدوحة بعد انطلاق الطائرات الإسرائيلية في الأجواء وهو ما فتح بابًا واسعًا للتساؤلات عن حقيقة الدور الأمريكي المشبوه والذي اثار سؤال ذو معنى دقيق هل اكتفت واشنطن بصفة المتفرج أم قدمت دعمًا لوجستيًا خاصة في ظل تقارير تحدثت عن تزويد الطائرات الاسرائيلية بالوقود جوا بواسطة طائرات أمريكية وعن تغطية بحرية وفرتها حاملة الطائرات الامريكية المتمركزة في البحر الأحمر.

الهجوم الغادر أثار ردود فعل غاضبة حيث اعتبرته قطر اعتداء سافر على سيادتها واستهداف متعمد لدورها كوسيط فيما أدانت عدة عواصم عربية وغربية والأمم المتحدة هذه العملية غير المسبوقة التي تهدد بانهيار المسار السياسي برمته وتفتح الباب أمام تصعيد إقليمي واسع بينما حاولت إسرائيل تصويرها على أنها عملية دقيقة ومبررة في إطار الرد على هجمات المقاومة لكنها في الواقع عكست عجزًا عن تحقيق الأهداف المعلنة.

الأهم في سياقات الحدث أن الهجوم الاسرائيلي جاء في لحظة سياسية بالغة الدقة و الحساسية بينما كان وفد حماس يدرس مقترحات لوقف إطلاق النار وهو ما يعزز الشكوك بأن الهدف لم يكن مجرد تصفية جسدية لبعض قادة حماس وإنما محاولة لتصفير طاولة المفاوضات وخلط الأوراق وإعادة فرض معادلة جديدة بالسلاح والنار غير أن الفشل في انجاز اغتيال القيادات الفلسطينية جعل المكاسب المرجوة تنهار أمام حجم الخسائر السياسية والأمنية الكبيرة .

العملية برمتها لم تحقق أهدافها وأثبتت مرة أخرى أن بنك الأهداف الإسرائيلي يقوم على الوهم وأن قدرته على حسم الصراع عبر الاغتيالات قد سقطت في غزة وها هي تسقط اليوم في قطر ومع ذلك فإن الأبعاد السياسية للعملية أخطر بكثير من نتائجها العسكرية فهي بمثابة رسالة مزدوجة لقطر بأنها ليست بمنأى عن العقاب الإسرائيلي كما هي رسالة ايضا لبقية دول الخليج بأن الاعتماد على المظلة الأميركية لم يعد يجلب سوى الخراب والإهانة ومن المهم ان لا يمر الاعتداء دون فضح التناقضات العربية فبينما انشغلت بعض الأنظمة قبل ايام بإدانة عمليات المقاومة وتعزية عائلات القتلى الإسرائيليين وجدت نفسها الآن صامتة أو مربكة أمام جريمة موثقة في عاصمة عربية وهو ما زاد من غضب الشارع وكشف حجم النفاق الرسمي الذي يساوي بين الضحية والجلاد .

واقعة الدوحة تبرهن من جديد أن لا دولة ولا عاصمة بمنأى عن الغطرسة الإسرائيلية ولا من التواطؤ الأميركي والعدوان الإسرائيلي وأن الحماية التي يتوهمها البعض تحت المظلة الأميركية ما هي إلا سراب ينهار في اول اختبار وأن الجميع في مرمى الاستهداف بعدما بات الاحتلال مستعدًا لتوسيع دائرته حتى لو كان الثمن ضرب وسيط معتمد كقطر وانتهاك سيادة حليف للولايات المتحدة لكن الرسالة المقابلة من فشل الاغتيال تقول إن الحصانة الحقيقية للقادة ليست في الجغرافيا ولا في الحصون وإنما في صمود قضيتهم التي لا تنكسر.

بالتحليل الدقيق نجد ان غارة الدوحة لم تكن مجرد قصف لمبنى ولا محاولة فاشلة لاغتيال قادة بل كانت فضيحة سياسية وعسكرية مدوية لإسرائيل ورسالة خطيرة للعالم بأسره أثبتت أن الاحتلال قادر على القتل والتدمير لكنه عاجز عن النصر أو كسر إرادة المقاومة وما فعلته تل ابيب في قطر سيبقى شاهدًا على أن هذه المعركة لم تعد محصورة في جغرافيا غزة وحدها بل باتت حرب مفتوحة بين مشروع احتلال يترنح ومشروع مقاومة يترسخ يوما بعد يوم.

الحقيقة الراسخة هنا انه لا يمكن فهم هذا الاعتداء بمعزل عن الدور المحوري الذي لعبته قطر في الوساطات السابقة بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال فلطالما كانت الدوحة إلى جانب القاهرة شريكا أساسيا في صياغة تفاهمات وقف إطلاق النار وإدارة ملفات الأسرى والإعمار وقد منحتها هذه المكانة موقعا حساسا في المعادلة الإقليمية لذلك فإن استهداف قادة حماس على أرضها لم يكن مجرد محاولة اغتيال بل رسالة واضحة تهدف إلى تعطيل الوساطة وإقصاء قطر عن المشهد وإضعاف مصداقيتها أمام الأطراف الأخرى وهو ما ينسجم تماما مع سياسة الإكراه التي تعتمدها إسرائيل مدعومة من واشنطن لإخضاع الجميع لشروطها بالقوة.

على صعيد المفاوضات الجارية بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى فإن العملية في الدوحة كشفت بوضوح أن الاحتلال لا يريد الوصول إلى أي صيغة اتفاق عادلة بل يسعى إلى إفشال كل الجهود وتفريغ الوساطات من مضمونها فاستهداف الوفد المفاوض في قلب العاصمة القطرية يعني أن إسرائيل غير معنية بعودة أسراها بقدر ما تريد كسر إرادة المقاومة وفرض شروط الاستسلام بالقوة وهو ما يجعل من ملف الأسرى ورقة أكثر تعقيدا ويهدد بانسداد كامل في أفق التفاوض ويؤكد أن أي حل لن يمر إلا عبر توازن الردع الذي تفرضه المقاومة لا عبر ضغوط واشنطن وتل أبيب.

الكثيرون تسألوا عن معنى وجود طائرات استطلاع أميركية وبريطانية في أجواء قطر قبيل الهجوم ما يثير أكثر من علامة استفهام حول طبيعة الدور الغربي في العملية وهل كانت الدوحة على علم مسبق بتلك التحركات الجوية أم أن الأمر جرى من خلف ظهرها ليكتمل مشهد الطعن في الظهر من أقرب الحلفاء ولماذا اختارت إسرائيل أن تنتظر عودة قادة حماس من تركيا لاستهدافهم في قطر أليس في ذلك رسالة واضحة بأن تل أبيب لا تجرؤ على المساس بالسيادة التركية بينما تعتبر السيادة القطرية مباحة وممكنة الاستهداف وهو ما يكشف ميزان القوة الذي يحكم حسابات إسرائيل ويعري الحديث الأميركي المتكرر عن احترام سيادة الحلفاء وحماية أمنهم.

الضربة الاسرائيلية حملت أيضا بصمات الضغط السياسي على كل الوسطاء ففي الوقت الذي كانت قطر ومصر تحاولان دفع عجلة المفاوضات إلى الأمام جاء القصف ليقوض أي فرصة للوصول إلى اتفاق ويؤكد أن إسرائيل لا تريد وقف الحرب ولا تسعى إلى صفقة تبادل أسرى بقدر ما تريد فرض شروط الاستسلام بالقوة وهو ما ينسجم مع السياسة الأميركية التي توفر الغطاء وتمنح الحماية لكل مغامرات الاحتلال .

المؤكد فشل نتنياهو في اغتيال قادة حماس لكنه نجح في كشف حقيقة التحالفات وأسقط ورقة التوت عن عورة الولايات المتحدة التي أثبتت أنها شريك مباشر في العدوان وليست ضامنا للأمن ولا حاميا للحلفاء وما جرى في الدوحة ليس إلا جرس إنذار مدويا بأن زمن الوعود الكاذبة قد انتهى وأن المنطقة مقبلة على منعطف حاد وخطير لن يصمد فيه إلا من يملك قراره ويعتمد على قوته لا على أوهام الحماية الخارجية.

ختاما : من يظن أن النار الاسرائيلية ستتوقف عند حدود غزة أو بيروت او دمشق او صنعاء او طهران او الدوحة واهم فالمشروع الصهيوني قائم على الاستباحة والتمدد وما دامت واشنطن توفر الغطاء الكامل والتواطؤ المستمر فإن أي دولة عربية أو إسلامية قد تكون الهدف التالي لذلك فإن الرد الحقيقي على عربدة اسرائيل لا يكون بالبيانات الباردة ولا بالتذرع بالتحالفات الكاذبة بل ببناء قوة ذاتية وموقف صلب يردع المعتدي ويعيد الهيبة للأمة فالتاريخ لا يرحم الضعفاء ومن لا يملك قراره وسيادته سيجد نفسه عاجلا أو آجلا تحت القصف والإذلال خصوصا وان هذه الاعتداءات تأتي بفعل دعم أميركي مطلق ومجتمع دولي يكتفي بالإدانة دون أي تحرك على الأرض لمنع هذه العربدة.

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]





عدد المشاهدات : (1127)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :