رم - أ.د. خالد واصف الوزني
اجتماع شنغهاي لمجوعة العشرين الجديدة، أو ما يُعرَف باجتماع منظمة شنغهاي للتعاون، هو العنوان الجديد لعصر اقتصادي ينبلج بتحفيز من المواقف والسياسات الأمريكية التي وحَّدت العدو والصديق للتكتُّل ضدها، في العلن وخلف الأبواب المغلقة. العصر الاقتصادي الجدي سيجعل من الثمانين عاماً الماضية مجرد صفحات من التاريخ، وهو عصرٌ بدأ يفتح فصلاً عالمياً جديداً لنظام عالمي جديد بات يتشكَّل بقوة وسرعة قد يستغربها البعض.
مجموعة العشرين الجديدة والمتنامية لا تشكِّل فقط ما يزيد على 40% من مساحة العالم وسكانه، و37% من تجارته، بل هي أكبر طاقة استهلاكية عالمياً، وهي أكبر منطقة شابة ومتنوعة حضارياً وثقافياً وسياسياً، وهي الأكثر شعوراً بالحاجة إلى عالم بعيد عن القطب الواحد. بيد أنَّ اجتماع منظمة شنغهاي للتعاون يأتي في ظل تحولات عميقة يشهدها النظام الاقتصادي العالمي، خصوصاً ما يتعلق بالتسويات المالية الدولية ودور الدولار الأمريكي كعملة احتياط وتبادل رئيسية. فمنذ ثمانية عقود تقريباً، هيمن الدولار على التجارة العالمية والاحتياطيات النقدية، حتى بات يشكِّل نحو 60% من الاحتياطيات الرسمية وقرابة 80% من التسويات التجارية عبر النظام المالي الدولي. هذه المكانة منحته قوة استثنائية، ليس فقط في الأسواق، بل كأداة للنفوذ السياسي والاقتصادي للولايات المتحدة.
ولعلَّ من الممكن القول إنَّ أحد أبرز مخرجات لقاء شنغهاي هو التركيز المتزايد على تطوير آليات مالية بديلة تعزِّز الاستقلالية عن الدولار، سواء عبر استخدام العملات المحلية في المبادلات التجارية، أو من خلال التوسُّع في تسويات باليوان الصيني والروبل الروسي. هذا التوجُّه يعكس إرادة سياسية واقتصادية لتقليص المخاطر الناجمة عن الاعتماد المفرط على عملة واحدة، خاصة في ظل استخدام الولايات المتحدة أدواتها المالية لفرض العقوبات، وتحقيق المكاسب السياسية. الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، تسعى بوضوح إلى تعزيز مكانة عملتها كعملة بديلة في التعاملات الدولية معها، على الأقل. دعمها لمبادرة الحزام والطريق، وتوقيعها لاتفاقيات مقايضة عملات مع عشرات الدول يعكس هذا التوجُّه.
روسيا بدورها باتت تتجه إلى تقليص حيازاتها من السندات الأمريكية وزيادة اعتمادها على الذهب والعملات الآسيوية. إلا أنه ومن ناحية عملية يمكن القول إنه رغم هذه الجهود يبقى الانتقال إلى نظام متعدد العملات أمراً معقداً ويحتاج إلى فترة من الزمن؛ فالخلاص من منطقة الإسترليني وسيطرته كعملة دولية اتخذ من الزمن عقداً ونصف تقريباً. غير أنَّ التراكم التدريجي للمبادرات الإقليمية – من شنغهاي إلى البريكس – يشير إلى أنَّ العالم قد يشهد إعادة تشكيل تدريجية لخريطة الاحتياطيات العالمية، لن يكون الدولار الأمريكي محورها، ولا المسيطر عليها. اجتماع شنغهاي يسلِّط الضوء على مسار عالمي جديد قوامه نظام مالي متعدد الأقطاب، تتحرَّك فيه الكتل الاقتصادية الكبرى لتعزيز استقلالها النقدي.
قد لا يفقد الدولار مكانته بسرعة، لكنه يواجه اليوم منافسة لم يعرفها منذ عقود. المستقبل القريب سيشهد مزيداً من الاتفاقيات الثنائية والإقليمية، واعتماد العملات الرقمية للبنوك المركزية كأدوات للتسويات عبر الحدود.
في المحصلة، يمكن القول إنَّ الاقتصاد العالمي يتجه نحو مرحلة انتقالية: من نظام أحادي القطبية تهيمن فيه العملة الأمريكية، إلى نظام أكثر تنوُّعاً وتعددية. على الدول التي لم تفكر بعد بالانخراط برسم خريطة العالم الجديد، أو التي تعتقد أنَّ العصر الحالي لن يأفل، عليها أن تُعيد حساباتها الاقتصادية على الأقل، وأن تبدأ خلال السنوات المتبقية من هذا العقد بتجهيز اقتصادها عبر تنويع المحافظ الاستثمارية، والاحتياطيات الأجنبية، وحتى آلية عمل سعر صرفها.
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية