الشباب الأردني بين التأثير والإقصاء: هل يحسم جيل المستقبل معركة القرار السياسي؟


رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي



الشباب الأردني بين التأثير والإقصاء سؤال يتجاوز اللحظة الانتخابية إلى بنية صناعة القرار نفسها، الواقع يقول إننا أمام ثقل ديمغرافي استثنائي؛ فالأردن بلد شاب بامتياز، غير أن هذا الرصيد لا يتحول تلقائيًا إلى نفوذ سياسي، الإصلاحات التي انطلقت منذ 2021 وضعت سكة جديدة: قوائم حزبية على الدائرة العامة، اشتراطات صريحة لوجود شباب ونساء في بنية الأحزاب والقوائم، وخفض عتبات الدخول إلى المنافسة. لكن الامتحان الأول للمنظومة الجديدة في أيلول/سبتمبر 2024 كشف فجوة بين النص والتمثيل: إقبال محدود، ووجود شبابي منخفض في المقاعد، وتصرفات شابها العديد من علامات الاستفهام ، ما يوحي بأن القطار تحرك فعلاً، لكنه يسير ببطء على سكك قديمة في بعض مقاطعها.

في الجوهر، ما يزال المزاج السياسي يتعامل مع الانتخابات بوصفها منافسة أفراد وشبكات محلية أكثر منها صراع برامج وأحزاب ، إدراج شاب/ة في المراتب الخمس الأولى شرط مهم، لكنه لا يضمن صعود جيل كامل إن بقيت القاعدة الاجتماعية للأحزاب ضعيفة التنظيم ومرتهنة لمواسم الاقتراع. المشهد يشبه محاولة إدخال هواء نقي إلى غرفة مغلقة النوافذ؛ النُظم تغيّرت، لكن دورة الأكسجين السياسي لم تكتمل.

الاقتصاد هو الإطار الناظم لكل ذلك. بطالة عامة مرتفعة وبطالة شبابية أعلى تقضم منسوب الثقة في الفاعلية السياسية. الشاب الذي يبحث عن فرصة عمل اليوم أقل ميلًا للاستثمار في مسار حزبي طويل نفس إذا لم يرَ عائدًا ملموسًا على حياته. هنا تتداخل السياسة بالمعيشة: ما لم يتحول خطاب الإصلاح إلى وظائف، وائتمان صغير، ومسارات تدريبية ومهارية قابلة للقياس، سيبقى جزء معتبر من الكتلة الشابة بين العزوف والتصويت الاحتجاجي، وسيبقى صندوق الاقتراع أداة للتنفيس أكثر منه منصة للتأثير.

على الضفة الأخرى، تشهد البيئة المؤسسية إشارات متباينة، تصنيفات الحريات تحسنت نسبيًا في بعض المؤشرات، لكن تقارير وممارسات على الأرض أشارت إلى تضييقات في محطات معينة، وهو تناقض يربك أحزابًا ناشئة وجمهورًا فتيًا يريد منافسة عادلة ومساحة آمنة للتنظيم والتعبير، استقرار قواعد اللعبة واتساقها عبر الدورات هو شرط ثقة لا غنى عنه؛ فالشاب لا يبني مساره الحزبي على أرضية قابلة للاهتزاز مع كل موسم.

المعضلة البنيوية الأبرز تتمثل في الوزن النسبي للدوائر المحلية مقابل الدائرة العامة. كلما اتسعت حصة التمثيل الحزبي الوطني، زادت فرص البرامج العابرة للمناطق، وارتفعت إمكانات صعود قيادات شابة قادمة من فضاء الأفكار. مراجعة ضرورية فنية للقانون واثره التطبيقي ، ونشر بيانات تفصيلية عن الترشيح والنجاح، سيجعلان النقاش عامًا وملموسًا، ويُحرجان أي ارتداد محتمل إلى أنماط تمثيل قديمة .

الأحزاب نفسها تقف أمام اختبار القدرة المؤسسية، نمو العضوية إلى عشرات الآلاف تطور مهم، لكنه رقمي ما لم يتحول إلى حلقات تدريب، وبرامج ظِلّ برلمانية، وخطط اتصال محلية تُخرج الحزب من صفحات الصحف إلى حياة الناس، بناء مسارات صعود داخلية للشباب من اللجان الطلابية إلى المكاتب السياسية هو الفارق بين حزب موسمي وحزب يراكم أجيالًا، حين يعرف الشاب أن ثمة طريقًا واضحًا من مقعد تدريب إلى مقعد تشريع، يصبح قرار الانضمام استثمارًا عقلانيًا لا مغامرة رمزية.

ومما يفاقم المعضلة أن جزءًا من النخب السياسية ما يزال أسير عقلية إعادة إنتاج نفسه؛ الوجوه ذاتها تعود في كل موسم، هذا السلوك لا يعكس ثقة بالجيل الجديد بقدر ما يكشف حالة إفلاس سياسي تبحث عن "تجميل" صورتها بضمّ بعض الشباب كحطب للوقود أو جسور عبور لسد فراغات الشرعية والقبول، في مثل هذا السياق، لا يصبح تمثيل الشباب مشروعًا حقيقيًا لبناء قيادات مستقبلية، بل مجرّد أداة لتغذية النقص القائم في رصيد تلك الشخصيات والنتيجة: استمرار الحلقة المفرغة ذاتها، حيث تُستنزف طاقات الشباب من دون أن يكون لهم أثر مؤسسي أو موقع فاعل في القرار.
على المدى القصير، من الواقعي القول إن الشباب لن يحسموا معركة القرار بين ليلة ودورة انتخابية، لكن على المدى المتوسط، تبدو نافذة الحسم مفتوحة إذا تزامنت ثلاثة مسارات: ترسيخ الحزبية كقناة رئيسية للتمثيل، توسيع الحصة الوطنية بما يحد من تشظي الأصوات في الدوائر المحلية، وتحسن ملموس في المؤشرات الاقتصادية المرتبطة بالشباب. عندها فقط يتحول الثقل الديمغرافي إلى ثقل سياسي، ويصبح التمثيل الشاب نتيجة منطقية لا استثناءً تجميليًا.

الاستشراف هنا ليس ترفًا، بل أداة عملية، إذا استمرت المنظومة الحالية مع تحسينات تدريجية في قواعد التمثيل الحزبي، ومع برامج حكومية وشبه مستقلة تُخرِج سنويًا آلاف الشباب المدربين على السياسات العامة والتشريع، يمكن خلال عقد أن نرى برلمانًا بكتلة شبابية وازنة تعكس الواقع العمري للمجتمع، أما إذا توقفت الإصلاحات عند النصوص، واستمر الاقتصاد في ضغطه، وتذبذبت بيئة الحرية والتنظيم، فسيرتد المشهد إلى مزيج من عزوف وموسمية انتخابية .

الكرة اليوم في ملاعب ثلاثة متجاورة: لدى الدولة مسؤولية تثبيت قواعد لعبة عادلة وتوسيع الشق الوطني في التمثيل، ولدى الأحزاب عبء التحول من لافتات إلى مؤسسات تبني قيادات شابة والابتعاد عن الوجوه المستهلكة ، ولدى الجيل نفسه واجب الانتقال من مواقع المتفرج والناقد إلى مساحات التنظيم والعمل.

حين تتقاطع هذه الملاعب على أرضية اقتصاد يوفر فرصًا ومسارًا، ستتغير الإجابة عن السؤال المركزي من “ليس بعد” إلى “نعم” لا بشعارية، بل عبر ميزان قوى انتخابي ومؤسسي يضع الشباب في قلب القرار لا على هامشه.

في الخلاصة، معركة القرار السياسي في الأردن ليست صراع أعمار بقدر ما هي صراع أنماط تمثيل، الإصلاحات فتحت الباب، لكن عبوره يتطلب تنظيمًا شابًا متماسكًا يحاكي المرحلة المقبلة من خلال تنظيم سياسي يوحد الجهود الشبابيه ، اقتصادًا يعطي السياسة معنى، وبيئة تنافس مستقرة، إذا تحقق ذلك، لن يعود وصف “جيل المستقبل” دقيقًا؛ سيصير الشباب جيل الحسم، ووقتها ستتغير ملامح السياسة من أساسها ، برامجًا، وتمثيلًا، ونتائج.



عدد المشاهدات : (4234)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :