صفحة من كتاب ( الاتفاقيات والمواثيق الاردنية عبر التاريخ)


رم -

بذرة المواثيق الأردنية قبل 14000 سنة

د احمد عويدي العبادي ( أبو البشر ونمي )
بذرة المواثيق الأردنية قبل 14000 سنة

ينطلق هذا الكتاب من رؤيةٍ مؤسِّسة مؤداها أن المجال الأردني، قبل التدوين وقبل أن تُقاس الأرض بالحدود الحديثة، كان فضاءً واسعًا نابضًا يتحرّك بين تخوم الربع الخالي والحجاز جنوبًا وسواحل البحر الأبيض المتوسط شمالًا.
في هذا الفضاء، تَشكّلت قبائلُ ثمودية أردنية عربية مبكّرًا، قبل 14000 سنة ونيف (12000 سنة قبل الميلادي ) , وتكاثفتْ بفعل ضغط الموارد وتقلّب المناخ والنزاعات على الماء والمرعى والطريق، فدفعتها سننُ البقاء إلى الهجرة الداخلية وإعادة التمركز، حيث أنشأت عبر آلاف السنين كياناتٍ وممالكَ متعاقبة حملت معها أعرافًا ومواثيقَ تنظّم الاجتماع والعمران.
في الأطراف الجنوبية من المجال الجغرافي الأردني ، استقر الحوريون بوصفهم الطليعة التي أسّست مملكتهم في مناطق الطفيلة، واتخذت من «السَّلع / الطفيلة » مركزًا، ثم رفدت منظومتها بملاذٍ طبيعي آمن هو البتراء؛ ذلك الحصنُ الصخري الذي احتضن الناس في أوقات الكوارث البشرية والطبيعية.
ومن رحم التجربة الحورية الأردنية تبلورت أدوم 4000 سنة قبل الميلاد ككيانٍ سياسي جديد، انفصل عن الأصل وأمسك بناصية المرتفعات الجنوبية واتخذوا من بُصيرا عاصمة لهم ، وظلّوا يرون في البتراء ملاذًا تُصان فيه النفوس والمؤن والأنعام؛ ملاذًا لا يُنتهك فيه حقُّ الضيف والعابر سيرا على سنة الحوريين من قبل وكل منهم نقش وقطع في صخر البتراء الوردي ما يلبي حاجته في هذا الوادي غير ذي الزرع
. هنا يتبدّى «ميثاق الملاذ» كأحد أقدم المواثيق الأردنية : عُرفٌ ملزِمٌ يقضي بأن تبقى المواضع الحصينة حرَمًا امنا وملاذا امنا وقت الشدائد، وأن تُعلّق فيها الخصومات إلى أن تهدأ العواصف.
وعلى امتداد الأودية التي تشق الوسط الأردني ( شرق غرب) من الحسا إلى الموجب، ظهرت قبائل الإيميين، فأسست لنفسها رئاسةً في قير حارسة/الكرك، وبسطت نفوذها بين الواديين. ومع تعاظم العمران والاحتكاك، وبعد 8000 سنة خرج من صُلبها المؤابيون، ( 4000 سنة قبل الميلادي فوسّعوا شبكاتهم، ورسّخوا أعراف الماء والمرعى، وقنّنوا المرور على الطرقات بين الكرك ووادي الأردن. في هذه الجغرافيا بالذات تَشكّلت قواعد دقيقة لقسمة المياه الموسمية، وتدبير السقاية، وحماية القطعان، وفرض الغُرم عند الاعتداء؛ وهي قواعد ستُصبح لاحقًا جزءًا من «قانون الموجب والحسا» العُرفي الذي ترددت أصداؤه في سائر الديار.
وفي الشمال الشرقي من هذا الحيز، انتظمت الزمزميون في رَبّة عمّون، وأداروا المجال الواقع بين وادي الموجب ووادي الزرقاء. لم تكن «رَبّة» مجرّد اسمٍ لعاصمة، بل كانت مجلسًا عرفيًّا مفتوحًا أورث الذاكرة الأردنية صورة «النادي» الذي يستقبل العابرين، ويعقد الصلح، ويبتّ في الخصومات.
ومن هذه التجربة الاجتماعية وفي 4000 سنة قبل الميلاد خرج العمونيون لاحقًا، من صلب الزمزميين، يواصلون تقعيد أعراف الزرقاء: توزيع الموارد، تأمين المعابر، وإسناد التحكيم إلى هيئةٍ مشهودةٍ من ذوي الرأي والمكانة.
أمّا الشطر الشمالي من المجال، من الزرقاء إلى تخوم الجولان والليطاني والساحل المتوسطي، فقد غلب عليه الروفائيون / العماليق ، فشكّلوا نطاقًا دفاعيًا واسعًا وفتحوا ممّرًا للشراكات مع أهل الساحل. ومنهم انسلخ الباشانيون الأردنيون في 4000 سنة قبل الميلاد ، كما غادرت فيما بعد موجات الهكسوس الأردنيين من مملكة الروفائيين / الهكسوس
، فكانت مواثيق الحدود والتحالفات الأردنية العابرة للمجالات السكانية عنوانَ المرحلة: تعاهدٌ على النصرة عند النفير، وتقييدٌ لخطوط الهجوم والانسحاب، وتقاسمٌ للغنيمة والكلفة، بما يجعل «ميثاق الدفاع المشترك» قرينًا لميثاق الماء والمرعى.
وفي البلقاء/ السلط المحروسة ، قامت مملكة بيريا فاتخذت من السلط عاصمةً ومركز ثقل، وبسطت سلطانها بين إمارةٍ تارة وحكمٍ ذاتي تارة أخرى ومقاطعةٍ طورا تابعةٍ حينًا، ومستقلّةٍ طورا اخر حتى القرن الخامس للميلاد. وكانت مملكة بيريا السلطية الأردنية أطولُ الممالك عمرًا في التاريخ والأرض
ولكنها لم تكن لتصمد لولا منظومةٌ من المواثيق متوازنة مع نظام من الجباية والأمن: ورسومٌ معلومة مقابل حمايةٍ مضمونة، وأسواقٌ تُمنع فيها الاحتكارات، ومسالكُ تُؤمَّن فيها القوافل، وأعرافٌ ناضجة تزاوج بين حاجات البادية والريف والمدينة.
ثم جاءت التجربة النبطية بوصفها ذروةً اتحاديةً لتحالفٍ عشائريّ كبير، انضوى تحته «رقمو» (الذين تَحفظ الذاكرة نسبتهم إلى جذام وقبائلها المعروفة التي لازالت في الأرض الاردنية الى يومنا هذا ويُساق معنى الاسم إلى الصخر القاسي)، وبنو الحارث الذين استقرّ فيهم الملك والعرش، و«عبادة/ » الذين تُحمّلهم الأخبار صلاتٍ بنَسَبِ الحويطات وبني عطية.
وقد ورث الأنباطُ إرثَ المواثيق القديمة وطوّروه إلى هندسةٍ مؤسسيةٍ كاملة: خزّانات وقنواتٌ تضبط الماء على مدار الفصول، وحِمى للجبال والوديان، وعقودٌ لحماية القوافل على طريق البخور تربط الحجاز بالشام ومصر ومرافئ المتوسط. هنا ارتقى «ميثاق الطريق والحماية» من عرفٍ يُتداول إلى منظومة نقلٍ وتجهيزٍ واقتصادٍ سياسي يفيض على الجوار ويشدّ بعضه بعضًا.
وعلى امتداد هذه السلسلة الطويلة من التحوّلات، ظلّ الجامعُ بين القبائل الأردنية هو «الميثاق»: الذي نظَّم عهودُ حسن الجوار وتبادل المنافع، والقَسَمُ على دفع العدوان الخارجي، وصونُ مواردٍ هشّة لا يحتمل بقاؤها العبث.
فالميثاق عند الأردنيين ليس ورقةً تُوقَّع، بل هو «ذاكرةٌ مُلزِمة» تتناقلها الجماعات وتتحول إلى مؤسسات: ماءٌ يُقسَم بميزانٍ معلوم، ومرعى تُحدّد له مواسمُ وحدود، وطريقٌ تُحمى فيه القوافل ويُجرّم فيه قطعُ السبيل، وسوقٌ تُحافظ فيه السلطة والمجتمع معًا على عدالة المبادلات، وحدودٌ تُصان بعقودِ دفاعٍ واضحة. بهذه الروح انتقلت القبائل الأردنية التي ذكرناها أعلاه إلى عتبة الدولة ومفهومها ، وارتقى العرفُ القبلي إلى قانون الدولة ، وأصبح الأمنُ شرطًا للعمران، والعمرانُ إطارًا لإدامة الأمن.
إن أطروحة الامتداد الثمودي الأردني لا تُكتب هنا بوصفها سردًا أسطوريًا، بل بوصفها حقيقة ومنهجًا لقراءة السجلّ الاجتماعي والسياسي للجغرافيا الأردنية التي تتكرّر فيها الظواهر وتتمايز فيها الأسماء.
ولذا سيأخذ هذا الكتاب على عاتقه تفكيك المواثيق بندًا، بندًا، وتتبع آثارها في الماء والمرعى والطريق والسوق والدفاع، من البدايات العرفية الأولى قبل اثني عشر ألف عام قبل الميلاد ، حتى التحوّلات الكبرى التي سبقت سنة 1920م؛ حيث أُغلقت صفحةٌ وانفتحت أخرى، وبقي «الميثاق القبلي الأردني المتوارث عبر 14000 سنة » هو الخيط الذي يشدّ الماضي بالحاضر ويعطي المستقبل معناه




عدد المشاهدات : (4091)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :