رم - بقلم: د. ماجد عسيلة
لم تعد الفوترة الوطنية في الأردن مجرد إجراء محاسبي روتيني أو مطلب ضريبي، بل تحولت إلى معركة اقتصادية حقيقية بين دولة تسعى لترسيخ الشفافية والعدالة، وقطاعات واسعة ما زالت تتهرب أو تتلكأ في الالتزام، فالمواطن الذي يجول بين المطاعم والمحال التجارية، أو يتعامل مع محال بيع قطع السيارات وورش الصيانة وغيرها الكثير من القطاعات، يكتشف يوميا أن الحصول على فاتورة ضريبية أو استخدام نظام الفوارة أمر أشبه بالمستحيل، وكأن القانون لا وجود له أو كأن الفاتورة ونظام الفوارة مجرد عبء يمكن تجاهله.
الفاتورة في جوهرها ليست ورقة عابرة، بل وثيقة قانونية تحفظ حقوق المستهلك وتضمن للدولة مواردها وتحمي السوق من التلاعب، إنها أساس العلاقة العادلة بين المشتري والبائع، وبدونها يتحول النشاط الاقتصادي إلى فضاء رمادي مفتوح أمام التهرب والفساد، ورغم أن نظام الفوترة الوطني بني على أسس إلكترونية حديثة تتيح الرقابة الفورية وتسهل إجراءات التدقيق وتوفر قاعدة بيانات ضخمة يمكن أن يستفيد منها صناع القرار، إلا أن مقاومة بعض القطاعات تكشف أن التهرب الضريبي ما يزال العقلية السائدة لدى شريحة لا يستهان بها من القطاع الاقتصادي.
خطورة الأمر لا تكمن فقط في ضياع حقوق الخزينة العامة، بل في ضرب العدالة الضريبية وتشويه بيئة الأعمال، فالتاجر أو المطعم أو ورشة الصيانة التي ترفض الالتزام تضع نفسها في موقع المنافسة غير المشروعة مع من يلتزم بالقانون؛ الملتزم يدفع ما عليه ويتحمل تكاليفه كاملة، بينما المتهرب يتخلف عن التزاماته ويستفيد من ميزة مالية غير عادلة.
هذه الممارسات تعمق الشعور بعدم المساواة، وتزيد من فقدان الثقة بين المواطن والدولة، وتفتح الباب أمام المزيد من العشوائية الاقتصادية.
ومع ذلك فإن المردود المتوقع من الالتزام الشامل يبرر حجم الرهان الذي تخوضه الحكومة، فالتوسع في الفوترة يعني تحسين الإيرادات العامة وتضييق فجوة التهرب، وتعزيز العدالة الضريبية بين جميع القطاعات، وتوفير بيانات دقيقة تتيح تخطيطا أفضل للمالية العامة، فضلا عن خلق بيئة أكثر انضباطا وجاذبية للاستثمار.
إن نجاح هذه التجربة لا يرتبط فقط بتوازنات الأرقام، بل بما هو أعمق في بناء ثقافة جديدة تقوم على احترام القانون والاعتراف بأن الشفافية ليست خصما للنشاط الاقتصادي بل حاميه وضامنه للاستمرارية.
التحدي الأكبر اليوم هو أن تدرك الحكومة أن سن التشريعات وحده لا يكفي، وأن المطلوب رقابة صارمة تطال الجميع بلا استثناء، وإجراءات ردع واضحة بحق المخالفين، مع توفير حوافز مشجعة للملتزمين، وحملات توعية تضع المستهلك في قلب العملية فيطالب بحقه في الفاتورة ولا يتساهل في التنازل عنها.
وفي الوقت نفسه لا بد من مراعاة أوضاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة عبر دعمها فنيا وتقنيا لتجاوز أي عقبات تحول دون اندماجها السلس في النظام.
المعادلة بسيطة لكنها حاسمة؛ إما أن يلتزم الجميع بنظام الفوترة فتترسخ قواعد العدالة وتتعزز موارد الدولة ويقوى الاقتصاد، أو يستمر التهرب ليتحول النظام إلى مجرد نص على ورق وتضيع فرصة إصلاح هيكلي يحتاجه الأردن اليوم أكثر من أي وقت مضى.
إن الفاتورة ليست عبئا إضافيا على أصحاب الأعمال كما يظن البعض، بل استثمار في اقتصاد أكثر عدلا واستقرارا واستدامة، وحجر أساس لبناء ثقة جديدة بين المواطن والدولة، وهي الثقة التي لا يمكن لأي إصلاح اقتصادي أن ينجح بدونها.