رم - مهدي مبارك عبد الله
في زمن يزداد فيه الجفاء داخل مؤسسات العدالة ظهر قاضٍ مختلف ليس بلباسه ولا بمنصبه بل بإنسانيته فرانك كابريو القاضي الأمريكي الشهير الذي أصبح رمزًا عالميًا للعدالة الرحيمة ولد عام 1936 في ولاية رود آيلاند لأب مهاجر إيطالي عمل بائع حليب بدأ مسيرته مع الفقر والكدح وعمل في وظائف بسيطة أثناء تعليمه ليصبح مدرسًا ثم محاميًا وقد عين قاضيًا في محكمة بلدية بروفيدنس عام 1985 وترأسها حتى تقاعده عام 2023 قرابة ( اربعة عقود ) ولم يعتلي منصة القضاء مثل غيره بل جلس ليستمع لا ليقاطع وليُعين لا ليُدين ولم يحتاج يوما للصرامة والوجه العبوس ليفرض هيبته واحترامه بعدما فرضه بابتسامة صادقة وخلق عظيم وقرارات مفعمة بالمودة والرحمة
توفي فرانك كابريو في 20 أغسطس 2025 عن عمر ناهز 88 عام بعد صراع طويل وشجاع مع سرطان البنكرياس وقبل فاته بيوم واحد خاطب متابعيه في مشهد مؤثر وكلمات حزينة من سرير المستشفى قائلًا ( صلّوا لي وإن غبت عنكم فاذكروني بلطف ( ثم رحل بجسده وبقيت رسالة العدالة التي ارسى قواعدها ليست نصًا جامدا بل حياة بنيت برحمة وكرامة لتبقى بصمة قانونية و انسانية خالدة
في قاعة محكمته لم تكن القوانين وحدها تتكلم بل نطق الضمير وكابريو لم يكن يقرأ أوراق القضايا فقط بل كان يقرأ الوجوه والقلوب وفي قرارته كان لنصوص القانون معاني انسانية فريدة فعلى سبيل المثال لا الحصر امرأة مسنّة تُعفى من الغرامة لأنها بالكاد تستطيع دفع ثمن الدواء وشاب فقد والده يروي مأساته فيحكم له بتأجيل الدفع وطفل يُسأل عن غرامة والده فيجيب ببراءة فيحكم بما قاله الطفل ويدون القرار باسمه كما لا ينسى موقفه الانساني العظيم وهو يستمع الى امرأة قُتل ابنها ويُسقط عنها مخالفات وغرامات قدرها 400 دولار كما شطب مخالفة مرورية حررت بحق نادلة تجاوزت إشارة حمراء لأن راتبها كان أقل من 4 دولارات في الساعة وغيرها الكثير
هذه المشاهد ليست تمثيلاً بل دروسًا حية في مسار العدالة الملتوي حيث كانت قرارات القاضي الراحل كابريو تمزج بحكمة ووعي القانون بالإحساس والحكم بالضمير ليخلق نهجًا جديدًا في القضاء
الحقيقة اننا لا نعرف كثيرًا من القضاة الذين أصبحوا نجوماً على شبكة الإنترنت لكن كابريو فعلها دون أن يطلب الشهرة بعدما اجتاحت مشاهد من برنامجه ) Caught in Providence ضُبط في بروفيدنس ) مواقع التواصل الاجتماعي فيس بوك ويوتيوب وتيك توك ولامست قلوب الملايين لأن الناس كانوا متعطشون لصوت مختلف داخل قاعات المحاكم فيه رأفة لا رهبة واستماع لا تسلّط حيث أثبت للعالم أن القانون يمكن أن يُطبق دون قسوة وأن الرحمة لا تُنقص من هيبة القاضي بل تزيده وقار واحترام
فرانك كابريو الملقب بألطف القضاة في العالم لم يكن قاضيًا عاديًا في محكمة بلدية صغيرة بولاية رود آيلاند الأميركية بل كان ظاهرة إنسانية وقضائية ألهمت الملايين حول العالم بابتسامته الودودة وأحكامه المنصفة والتي جعلت منه رمزًا للعدالة التي لا تنسى حيث فهم أن للإنسان مشاعر وظروفًا لا تُكتب في نصوص القوانين في زمن طغت فيه البيروقراطية على المشاعر جاء كابريو ليذكر العالم بأن وظيفة القاضي لا تقتصر على إنفاذ القانون بل تتسع لاحتضان الإنسان أيضًا
هنالك العديد من القواعد والدروس السلوكية والمهنية التي تركها كابريو لقضاة اليوم امانة ووديعة في مقدمتها استمع أولًا ولا تحكم قبل أن تفهم الإنسان وظروفه وان الاخذ بالرحمة لا يتعارض مع العدالة فهي وجه العدالة الناعم لا نقيضها كما يجب على القضاة احترام الكرامة الإنسانية فالمتهم ليس دائمًا مجرمًا وأحيانًا يكون ضحية منظومة أكبر ولا بد من استخدام السلطة بحكمة والقاضي لا يجب أن يكون سجان بل مرشد وقائدًا أخلاقي وقد تميز كابريو بأسلوب فكاهي ومحترم ورافق الحكم بالسؤال عن ظروف المتهمين بل وأحيانًا يستدعي أطفال المتهمين للمشاركة في القرار بطريقة إنسانية عميقة
في العالم العربي بنيت صورة القاضي على الكشرة والزجر والحزم والرهبة بل أحيانًا على الصمت المطبق داخل المحكمة حيث لا يُسمح للمتهم حتى بأن يشرح او يتحرك لكن ماذا لو جلس كابريو على منصة قضاء عربية هل كان سيسمح بإسكات الأرملة وهل كان سيقاطع الطفل الذي يريد الحديث بالتأكيد لا إذن نحن بحاجة إلى تغيير جوهري لان العدالة لا تضعف إن بكت ولا تنهار إن ابتسمت بل على العكس العدالة تكبر وترقى عندما تقترب من نبض الناس وآلامهم و ومشاعرهم
السؤال المطروح هل يمكن لنا تطبيق منهاج مدرسة كابريو كنموذج حي للعدالة الأخلاقية في الوطن العربي لإعادة الأمل داخل منظومة المحاكم حيث يمكننا استلهام مشروع وطني شامل من خلال تقديم دورات تدريبية للقضاة حول التواصل الإنساني مع المتقاضين وادماج مساقات جامعية او ابحاث للتخرج مستوحاة من تجربته ووضع جوائز سنوية لأفضل القضاة تأثيرًا إنسانيًا وإطلاق مبادرة إعلامية بعنوان ( الرحمة لا تُخيف العدالة ) والأخذ في الاعتبار الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمتهم وعدم الاقتصار على مجرد تجريم أو إنفاذ الاحكام وان التفاعل العفوي والودود مع الجمهور يعزز الثقة بالمؤسسات القضائية ويلهم التغيير نحو العدالة الإنسانية
الملاحظ عمليا انه كلما كانت محكمة كابريو تنشر مقطع جديد كان الناس ينتظرونه بشوق كما ينتظرون فيلم إنساني مؤثر لأنه جعل المنصة القضائية منبرًا للأمل لا منصة للرعب وقد سأل مرة أحد الأطفال داخل المحكمة هل ترى أن والدك مذنب فرد الطفل لا هو فقط نسي فقال القاضي إذن نحن سنسامحه هذه المرة لأجل الصدق الذي سمعناه منك حقا لقد أعاد كابريو تعريف صورة القاضي في أذهان الناس ليس كمُنفّذ جامد للنصوص بل كإنسان يرى ما وراء الأوراق ويفهم ما بين السطور ويحكم بالعدل والانصاف حين وقف صادقًا مع ضعفاء المجتمع وأكد أن العدالة حق مكتسب للجميع
القاضي كابريو لم يكن مجرد رجل قانون يجلس على منصة القضاء بل كان أبًا رمزيًا لكل إنسانٍ ضعيف وصوتًا صادقًا للرحمة ولم يترك خلفه ثروة بل ترك إرثًا أخلاقيًا عالميًا ونهجا انسانيا عظيما قابلًا للتطبيق لو أردنا ذلك ولكي لا تبقى قصته مجرد مقاطع على الإنترنت علينا تدريس تجربته في كليات القانون وترجمة برنامجه ونشره على نطاق عربي واسع لتشجيع القضاء العربي على تبني نموذج قضاة يملكون القلوب لا فقط السلطة والمواد والنصوص لتصبح الرحمة أساسًا في تطبيق القانون
من أشهر أقواله آمل أن يستوعب الناس أن مؤسسات الحكومة قادرة على العمل بكفاءة عالية من خلال ممارسة اللطف والإنصاف والرحمة كما آمل ايضا أن يدرك الناس أننا قادرون على تحقيق العدالة دون قمع
في النهاية القاضي الذي صنع من العدالة دمعةً وابتسامة سيخلده التاريخ قاضيًا بكى ثم حكم بعدالة ملهمة ورؤية إنسانية لن تموت حيث لم يكن مجرد شخصية قضائية بل نموذج يذكرنا بأن عدالتنا لن تكون مكتملة إلا عندما تُشبع روح الإنسان بالسلام والإنصاف ووفي المقابل تمتد معاناتنا نحن كبشري حين تُغلق الأبواب أمام من لا صوت له فلنحتفل بذكراه في كل عام عبر التحسين الحقيقي للعدالة في قلوب القضاة ومكاتبهم وفي الصفحات التي تكتب عنها بان القانون لا يجب أن يكون قاسياً حتى يكون عادلاً ويجب ان ينظر للإنسان قبل الخطأ وللظروف قبل المخالفة وداعا كابريو القاضي الانسان الذي حكم بالرحمة وأبكى العالم بإنسانيته والسلام لذكراك الطيبة
باحث وكاتب مختص في الشؤون السياسية
[email protected]