رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي
لم تكن تصريحات بعض الساسة الإسرائيليين التي تبنّت سردية «إسرائيل الكبرى» مجرد خروج إعلامي عابر، بل عكست مناخًا سياسيًا داخليًا يبحث عن خطاب تعبوي يوظَّف في إدارة أزمات الداخل الإسرائيلي. ومع ذلك، فإن مثل هذه التصريحات لا يمكن الاستهانة بها أو التعامل معها كفقاعة إعلامية؛ فهي تحمل بين طياتها دلالات استراتيجية، ورسائل اختبار للعواصم العربية، وفي مقدمتها عمّان.
فالسؤال المركزي الذي يفرض نفسه اليوم: هل ما نراه هو مجرد استعراض خطاب أيديولوجي يخدم الداخل الإسرائيلي، أم أننا أمام مشروع متدرّج يهدف إلى نقل الخيال السياسي إلى حقل السياسات العملية؟
في الحالتين، هناك رسالة موجهة للإقليم: اختبار حدود الردع العربي، وقياس قدرة الدول على تحويل الاعتراض الأخلاقي إلى كلفة استراتيجية ملموسة.
اختار الأردن أن يصوغ رده لا كتعليق سياسي على حدث إعلامي، بل كعقيدة راسخة في منظومة الأمن الوطني. الرسالة كانت واضحة: السيادة ليست مادة للمساومة، والحدود ليست موضوعًا للتجريب السياسي أو الإعلامي.
فالدولة التي تعيش على تماس مباشر مع صراعات المنطقة، وتواجه ضغوطًا ديموغرافية واقتصادية وأمنية متراكمة، تدرك أن خطورة «الجغرافيا المتخيلة» لا تتوقف عند الخرائط والشعارات، بل تمتد سريعًا إلى الأسواق، والحدود، وحتى إلى الشارع الداخلي.
الأردن ليس مجرد طرف يُستدعى عند الحاجة في معادلات الإقليم؛ بل هو منصة توازن إقليمي واستراتيجي. فمن خطوط التجارة البرية التي تربط المشرق بالخليج، إلى منظومة أمن الحدود، إلى الدور المركزي في ملف القدس والمقدسات، إلى إدارة شؤون اللاجئين وتحييد شبكات التهريب… كلها تجعل من عمّان أصلًا استراتيجيًا لا يمكن تجاوزه.
ولذلك جاء الموقف الأردني حاسمًا: من يلوّح بتغيير قواعد اللعبة الإقليمية عليه أن يحسب كلفتها قبل أن يتحدث عن عوائدها.
إذا ما تجاوزنا الخطاب إلى حسابات الفعل، فإن هناك ثلاثة مسارات خطر تمسّ الأردن مباشرة:
1. أي هندسة قسرية لواقع الضفة الغربية تضغط باتجاه تفكيك التواصل الجغرافي والديموغرافي الفلسطيني، بما يحوّل الأردن إلى صمّام أحادي الاتجاه لاستيعاب الأزمات.
2. العبث بوضع القدس والمقدسات، بما يحمله ذلك من ارتدادات اجتماعية وأمنية مباشرة داخل المملكة.
3. تحويل الحدود إلى ساحة حرب رمادية عبر التسلل والتهريب، وتوظيف أدوات الإعلام التحريضي لرفع منسوب التوتر.
هذه ليست سيناريوهات نظرية، بل خطوط إنذار مبكر تتطلب مراقبة لصيقة ومصفوفة قرارات سريعة وحاسمة.
في مواجهة هذه التحديات، يمتلك الأردن منظومة أدوات متدرجة ومرنة:
* دبلوماسيًا: تحويل الإدانة إلى التزام جماعي عربي ودولي، يفرض كلفة على الخطاب التحريضي ويُحمّل أصحابه ثمنًا على مستوى السمعة والشرعية.
* قانونيًا: بناء ملفات موثقة تربط الأقوال بالأفعال، بما يسهل تفعيل الأدوات الأممية والإقليمية، ويُحاصر أية محاولات لشرعنة الخطاب التوسعي.
* أمنيًا: تطوير عقيدة إدارة الحدود من مفهوم «المنع» إلى «الإحباط الذكي»، القائم على الاستشعار المبكر والتحليل المشترك للمخاطر.
* اقتصاديًا: تسريع مشاريع الربط والبنية العابرة للحدود، بما يغلق هوامش الابتزاز ويخلق مصالح مشتركة تقيّد النزعات المغامِرة.
* إعلاميًا: صياغة سردية موحدة تشرح للجمهور الأردني والعربي كيف يمكن أن تتحول الشعارات السياسية إلى تهديدات معيشية إن تُركت بلا رد.
القراءة الاستشرافية تضعنا أمام ثلاثة سيناريوهات:
* الأكثر ترجيحًا: تصعيد رمزي مُدار، تُستخدم فيه الخرائط والشعارات لإسناد الداخل الإسرائيلي أكثر مما يُراد به تغيير وقائع على الأرض. وهنا تكمن أهمية الرد المبكر والمتعدد الأدوات لتقليص هامش انتقال الرمز إلى التنفيذ.
* الأقل احتمالًا، لكن ممكن: خطوات إجرائية محدودة تُقاس بها ردود الفعل الإقليمية. وفي هذه الحالة، يظل الرد الأردني المتدرج ، دبلوماسي، اقتصادي، قانوني، مع جاهزية ميدانية الضامن لإعادة ميزان الردع إلى نقطة التعادل.
* السيناريو المستبعد حاليًا: تهدئة فعلية. وهذا لن يتحقق إلا حين تدرك إسرائيل أن تكلفة المغامرة أكبر بكثير من أي مكسب سياسي قصير الأجل.
الخلاصة أن الأردن لا يكتفي بردود أفعال لحظية. التحدي الحقيقي هو بناء هندسة مناعة دائمة تحصّن الدولة في وجه تقلبات الإقليم:
* اقتصاد أقل هشاشة أمام الصدمات.
* تعزيز ادارة الحدود لادارتها بالبيانات لا بالدوريات وحدها.
* تحالفات تُبنى على المصالح لا على ردود الأفعال.
* وإجماع وطني يتحول إلى قوة ردع سياسية ومعنوية.
في النهاية، الأردن ليس مجرد رقم في معادلة إقليمية؛ بل هو المعادلة ذاتها. سيادتنا خط أحمر، ومن يقترب منها يفتح على نفسه أبواب مواجهة تتجاوز الحدود والجغرافيا.
هنا الأردن… حيث تُصنع الموازين، وحيث يسقط وهم «إسرائيل الكبرى»، وحيث تتأكد حقيقة أن الشعوب والدول التي تملك الإرادة والرؤية، هي وحدها القادرة على تحويل التحديات إلى فرص، والمخاطر إلى مصادر قوة.