رم - أ.د.علي حياصات
منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي ، شكّلت معادلة الأمن الوطني الأردني تحديًا مستمرًا لصانع القرار في عمّان. ولعقود طويلة، ارتكزت الاستراتيجية الأردنية على عنصرين متكاملين: الحد الأدنى من منظومة الأمن العربي المشترك، والدبلوماسية النشطة التي نسجت علاقات عميقة مع مراكز القرار المؤثرة في العواصم الغربية، في محاولة لتحقيق التوازن بين الجغرافيا الضاغطة والمصالح العليا للدولة.
لكن مع مرور الزمن، تلقى خيار "الأمن العربي" ضربات قاصمة. أولها انسحاب مصر من محور المواجهة بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، ثم الضربة الأشد قسوة بخروج العراق من المشهد العربي بعد غزو الكويت عام 1990 وما تلاه من حصار وانهيار وتفكك كامل لمفهوم الامن العربي المشترك. هذه التغيرات قوضت فعليًا أي رهان حقيقي على منظومة عربية قادرة على تشكيل مظلة دفاعية مشتركة، وأبقت الأردن في مواجهة مفتوحة مع التحولات الإقليمية، مدفوعًا للبحث عن بدائل تحفظ أمنه واستقراره.
توجّهت السياسة الأردنية نحو تحالفات إقليمية ودولية جديدة، عمّقتها اتفاقية أوسلو عام 1993، وتُوجت بمعاهدة وادي عربة في العام التالي. منذ ذلك الحين، أعادت الدولة ترتيب أولوياتها الدفاعية، فألغت التجنيد الإجباري، وركّزت على تطوير منظومتها الأمنية الداخلية، خصوصًا من خلال تأسيس قوات الدرك. كان ذلك جزءًا من تحول استراتيجي أوسع، هدف إلى تعزيز الاستقرار الداخلي دون الانجرار إلى مواجهات خارجية مفتوحة أو مغامرات غير محسوبة.
ألان ، ومع تصاعد نفوذ اليمين الإسرائيلي المتطرف، تعود إلى الساحة دعوات شعبية لإعادة التجنيد الإجباري، بل وتسليح المواطنين، تحسبًا لأي تهديد محتمل. ورغم أن هذه الدعوات تنبع من حرص وطني صادق، فإنها تعكس أيضًا قراءة غير متكاملة لتعقيدات المشهد الأمني والسياسي، إذ لا يمكن اختزال الردع في تسليح الداخل، ولا يمكن تجاهل أن طبيعة التهديدات لم تعد تقليدية.
صحيح أن إسرائيل تمارس ضغوطًا متزايدة على الأردن في ملفات مثل الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس وملف التهجير في الضفة الغربية، لكنها لا تملك , في ظل التوازنات الإقليمية والدولية ,لا القدرة ولا الجرأة لفتح جبهة عسكرية على نهر الأردن. فالمواجهة المباشرة مع الأردن ليست في مصلحة أحد، وقد تُشعل حريقًا لا يملك أحد القدرة على احتوائه. هذا الكلام يذكرني بما قرائته عن احد اجتماعات مجلس قيادة الثورة في مصر اثناء حرب حزيران عام 1967, عندما دعا السادات الى تسليح الشعب المصري للدفاع عن القاهرة عقب احتلال سيناء, مما استدعى سخرية باقي اعضاء المجلس لعدم فهم ا لاخير لطبيعة الوضع الجيوسياسي والعسكري للصراع!!!
يقول المثل الأردني: "العَلِيقُ عِندَ الغَارَةِ ما بْيِنفَعْ."في إشارة حكيمة إلى أن الاستعداد لا يبدأ ساعة الخطر، بل يُبنى في أوقات السلم. فالأمن الوطني لا يُؤسس كرد فعل، بل كمسار طويل من بناء الردع الاستراتيجي، وتعزيز الكفاءة المؤسسية، وترسيخ وعي شعبي يواكب التحديات.
الدعوات إلى تسليح الشعب، وإن كانت نابعة من مشاعر وطنية صادقة، إلا أنها تُغفل طبيعة الصراع الاستراتيجي وتعقيد اللحظة السياسية. فالمعركة الحقيقية اليوم هي معركة وعي واستعداد، لا عاطفة وسلاح.