الوطن ليس منصة .. والحكمة ليست خيانة


رم - أ.د. علي النحلة حياصات


في عام 1959، وخلال المؤتمر القومي الثالث الذي عقد في دمشق، اتخذ حزب البعث العربي الاشتراكي قرارًا استثنائيًا: عدم السعي إلى استلام السلطة في الأردن. قد يبدو هذا القرار مستغربًا من حزبٍ ثوريٍّ عروبيّ، لكن في سياقه الزمني، كان قرارًا ينمُّ عن وعي استراتيجي عميق، لا سيما أن استلام السلطة في الأردن كان سيضع الحزب تلقائيًا أمام التحدي الأكبر: تحرير فلسطين وهو ما لم يكن الحزب مستعدا له في ذلك الوقت.

كان ذلك في زمنٍ لم تُهزم فيه العواصم بعد، ولم تكن المقاومة مجرد خيمة خطابية، بل مشروعًا مكلفًا دمًا وسلاحًا ورجالًا. كان حزب البعث يدرك أن الأردن، بحدوده مع فلسطين، وبتركيبته السكانية الدقيقة، ليس دولة كغيرها. وأن أي اندفاع شعاري نحو "التحرير" دون حسابات دقيقة، قد يحوّل الأردن من قاعدة دعم إلى ساحة تصفية.

اليوم، بعد أكثر من ستة عقود، يعيدنا المشهد الفلسطيني الكارثي في غزة إلى مربع الأسئلة الأصعب: ما المطلوب من الأردن؟ وهل يُراد له أن يدفع فاتورة السياسات الشعاراتية للآخرين، كما دفع أثمانًا من قبل؟
بعض الأصوات , من جماعة الإخوان المسلمين تحديدًا، ومن الحركات الشعبوية المتحمسة , تعيد إنتاج الخطاب ذاته: لماذا لا يفتح الأردن حدوده؟ لماذا لا "ينخرط" أكثر في "المعركة"؟ ولماذا لا "يعلن" نفسه رأس حربة في هذه الحرب الإقليمية المفتوحة؟

الجواب ببساطة: لأن الأردن ليس ساحة، بل وطن.
ليس مطلوبًا منه أن ينتحر سياسيًا أو أمنيًا لكي يُرضي خطيبًا متحمسًا أو تغريدة غاضبة. إن "نجدة غزة" لا تكون عبر فتح الجغرافيا الأردنية للفوضى، بل عبر دعم الصمود الفلسطيني في أرضه، ومنع تهجيره القسري إلى الشرق، وهو الخطر الحقيقي الذي لا يُراد لأحد أن يتحدث عنه بصوت عالٍ.
وهنا يجب أن يكون الخط الأردني واضحًا، كما كان في مراحل تاريخية مفصلية: لا للتوطين، لا للتهجير، لا لتحويل الأردن إلى "الخطة ب" حين تفشل "الخطة أ" في غزة.

أما من يطالب بتوريط الأردن في حربٍ لا يملك أسبابها ولا مبرراتها، فنقول له: تفضل. إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين , أو غيرهم , ترى أن الأردن مقصّر، فلْيطالبوا بتشكيل حكومة ذات ولاية عامة، وليتفضلوا بإدارة الدولة من بوابة الدستور، لا من نوافذ الوعظ.
وحينها، سيفهمون أن الجلوس على الكرسي يختلف جذريًا عن الوقوف في المسيرة. وأن خطاب "التحرير" من على المنابر لا يشبه شيئًا من حسابات الأمن، ولا من تعقيدات الاقتصاد، ولا من ميزان المصالح الدقيقة التي تحفظ استقرار بلد في موقع جغرافي صعب، تحيط به النيران من كل الجهات.

نموذج مصر لا يزال ماثلًا أمامنا: حين تولى الإخوان الحكم هناك، بكل ما تحمله مصر من وزن عسكري وتاريخي، لم نرَ قرارًا واحدًا يعيد النظر في كامب ديفيد، ولا في العلاقات مع تل أبيب، ولا حتى في المعونة الأمريكية, لقد انشغلوا بما ينشغل به كثير من الحزبيين: إعادة ترتيب المفاصل، وتمكين الموالين، وكأن السلطة غنيمة لا مسؤولية.
أما النموذج التركي، فقد رفع الخطاب عاليًا، وهدّد وتوعّد، لكنه في الواقع عزز علاقاته مع إسرائيل تجاريًا وأمنيًا. وهكذا يتضح الفرق دائمًا بين لغة السياسة ولغة الاستعراض.

الأردن الرسمي يدرك أن البقاء في منطقة كهذه ليس نتاج خطاب عاطفي، بل نتيجة توازنات دقيقة. فليس في الأمر تواطؤ، بل وعي. وليس في الحذر ضعف، بل شجاعة مختلفة الطراز: شجاعة أن تقول "لا" حين يكون أسهل شيء هو الصراخ بـ"نعم" على حساب الوطن.

الأسوأ من كل ذلك أن من يزايدون على الأردن اليوم، قد يكونون ,دون أن يشعروا , أدوات في تمرير سيناريو "الترانسفير الناعم" الذي تسعى له أطراف عديدة. وهنا، تصبح بطولتهم جزءًا من مؤامرة لا من مقاومة.

وفي النهاية، سيبقى الأردن واقفًا، بهدوء الحكماء لا بانفعال الهواة.




عدد المشاهدات : (5807)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :