رم - على خشبة المسرح الرئيسي في مركز الحسين الثقافي، وفي إطار مهرجان جرش للثقافة والفنون بنسخته الـ39، قدّم العرض الفلسطيني “هبوط مؤقت” ضمن مهرجان المونودراما، بإدارة الفنانة عبير عيسى، والذي حول لحظة عرض إلى لحظة وعي جماعي، وصرخة من داخل الزنزانة إلى قلب كل من في القاعة.
من بين أدراج الجمهور، خرج الممثل ثائر ظاهر حاملاً مصباحًا صغيرًا وصوتًا كبيرًا، ليقول، “أنا هون، أنا عايش بعالمي الخاص، الي أرضي ودستوري وهويتي”، من تلك اللحظة، لم يكن العرض مجرد تمثيل، بل محاكاة حقيقية لوجع فلسطيني متوارث، يبدأ بقميص معلق وبسطار مهجور، ووشاح نسائي ابيض.
تدور أحداث العرض حول “ياسر”، الشخصية التي كتبها وأخرجها قدري كسبة، مجسدًا من خلالها حكاية شاب فلسطيني عادي في ملامحه، استثنائي في تحوله من ابن الأرض إلى شهيدها.
يمزج الممثل شخصيات عديدة في جسد واحد، الأم، الأب، العم الشهيد، الصديق، الأستاذ، وحتى صوته الداخلي، كل شخصية تسكنه وتعيد تشكيله من جديد، فنرى الأم التي كانت تحمله على كتفيها في طفولته، ونعرف عن الأب المريض الذي سماه على اسم شقيقه الشهيد، نشاهد صراع الأم مع أرضها التي ترفض تركها رغم تعبها، ونتتبع خطى العروس التي بحثت عنها الأم بيتًا بيتًا، حتى أطلقت زغرودة الفرح.
يغوص العرض في النسيج الاجتماعي والوطني الفلسطيني، فيقدم صورًا حية للانتفاضة، للمقاومة، وللخسارة، نكتشف أن البسطار المعلق على الخشبة هو لصديقه الشهيد زياد، وأن البندقية التي يحملها هي ميراث الدم من عمه، يرتدي ياسر البسطار، ويكمل درب الشهداء، محققًا انتقامه من الاحتلال، قبل أن يعتقل في لحظة عودته لحضن عائلتة.
هنا، تنقلب الخشبة إلى زنزانة، ويغدو ياسر سجينًا في سجن ريمون، حيث يبدأ فصل آخر من النضال، هذه المرة، بصوت الأمعاء الخاوية، يعاقب بالعزل، ويحاصر بصوت قطرة ماء لا تتوقف، في برد لا يرحم، حتى تغدو نملة زائرته الوحيدة ورفيقته في الوحدة، فيحملها بكفه ويبوح لها بما لم يستطع قوله للبشر.
اللقاء الوحيد الذي يتشبث به ياسر يكون عبر جدار زنزانة، مع أسير لا يعرف ملامحه، اسمه سامر، الصوت هو الرابط الوحيد، حتى لحظة النهاية، حين تهزم الجدران الجسد وتكبل الروح، ويرحل ياسر شهيدًا في السجن، ويلتحق بمن سبقوه، العم، الصديق، والأب.
العمل الذي أخرجه قدري كسبة بعمق فكري وبصري، وصاغه بحرفية المونودراما الصعبة، اعتمد على أداء ثائر ظاهر الذي حمل النص بجسده وروحه وتحولاته، من الرقصة الفلاحية إلى صرخات السجن، ومن ضحكة الأم إلى نظرة الشهيد، فيما تولى تصميم السينوغرافيا والإضاءة خالد الغول ، فحول الخشبة إلى فضاء مفتوح على الحنين، الصمت، والقهر، باستخدام رموز بصرية بسيطة ذات دلالات عميقة (قميص، بسطار، بندقية، وشاح).
أما المؤثرات الصوتية،فكانت شريكة حقيقية في السرد، تنتقل بنا من زغاريد الأعراس إلى دوي القصف، ومن أغاني الوطن إلى نبض السجن، ليتحول “هبوط مؤقت” إلى وقفة دائمة في ضمير كل من شاهد العرض.