التحول الرقمي في مؤسسات القطاع العام: ما له وما عليه


رم - د. هيثم علي حجازي


في ظل التحولات التكنولوجية المتسارعة التي يشهدها العالم في العقود الأخيرة، بات التحول الرقمي ضرورة استراتيجية لا يمكن تجاهلها في مختلف القطاعات، لا سيما القطاع العام. فقد أصبح توظيف التقنيات الرقمية جزءا لا يتجزأ من الجهود المبذولة لتحسين الكفاءة الحكومية، وتطوير جودة الخدمات العامة، وتعزيز مبادئ الشفافية والمساءلة.

غير أن نجاح هذا التحول لا يقتصر على تطوير البنية التحتية الرقمية أو اعتماد التطبيقات الحديثة فقط، بل يرتبط ارتباطا وثيقا بالعامل البشري. إذ تُعد الموارد البشرية المحرّك الحقيقي لأي عملية إصلاح أو تطوير مؤسسي، وقد تكون هي العامل المساعد في دفع عجلة التغيير أو العقبة التي تعيق تقدّمه.

يعرّف التحول الرقمي على أنه عملية دمج التقنيات الرقمية في مختلف أنشطة ومهام المؤسسات الحكومية بهدف تطوير الخدمات، وتبسيط الإجراءات، وتهيئة بيئة عمل تتسم بالكفاءة والابتكار. ولا يقتصر هذا التحول على التحول من الورقي إلى الإلكتروني فقط، بل يشمل إعادة تصميم العمليات الإدارية والخدمات الحكومية على نحو يعكس متطلبات العصر الرقمي.

وقد تزايدت توقعات المواطنين بالحصول على خدمات حكومية سريعة وفاعلة؛ والحاجة إلى خفض التكاليف التشغيلية لمؤسسات الدولة؛ والسعي نحو تعزيز مبادئ الشفافية والحوكمة؛ وضرورة رفع كفاءة الأداء الداخلي وتحسين إدارة الموارد.

الآثار الإيجابية العامة للتحول الرقمي في القطاع العام
مما لا شك فيه، وكما أثبتت البحوث والدراسات، فإن اعتماد التقنيات الرقمية في أعمال المؤسسات الحكومية له آثار ايجابية عديدة منها: (1) المساهمة في تسريع إنجاز المعاملات وتقليل الوقت والجهد اللازمين لتنفيذها (2) الحد من البيروقراطية والفساد الإداري إذ تؤدي الأنظمة الرقمية إلى تقليل التدخلات البشرية مما يحد من فرص التلاعب والفساد (3) رفع جودة الخدمات العامة إذ أن الحلول الرقمية تسهم في تحسين تجربة المستخدم وزيادة رضا المواطنين (4) تعزيز المشاركة المجتمعية لأن القنوات الإلكترونية تعمل على توفير وسائل فاعلة لِتَواصُل المواطن مع المؤسسات الحكومية مما يعزز من دوره الرقابي والمجتمعي (5) وأخيرا دعم اتخاذ القرار إذ تمكِّن أدوات تحليل البيانات صانعي القرار من الحصول على معلومات دقيقة وحديثة تسهم في رسم سياسات فاعلة ومبنية على الواقع.

دور الموارد البشرية والتحول الرقمي في مؤسسات القطاع العام
تمثل الموارد البشرية الركيزة الأساسية لإنجاح مشاريع التحول الرقمي، إذ إن فاعلية الأنظمة الرقمية مرهونة بقدرة الموظفين على استيعابها وتوظيفها بما يخدم أهداف المؤسسة. ويُعد الاهتمام بتأهيل وتطوير الكوادر أحد الضمانات الرئيسة لاستدامة التحول الرقمي وتحقيق أثره المرجو. وتشير الدراسات والتجارب إلى أن هناك عدة جوانب إيجابية لدمج الموارد البشرية في عملية التحول الرقمي، منها (1) زيادة الكفاءة بعد التدريب إذ تشير نتائج عدة دراسات إلى أن تدريب موظفي القطاع العام على استخدام التقنيات الرقمية يؤدي إلى ارتفاع في إنتاجيتهم بنسبة قد تصل إلى 30%. فالموظفون الذين خضعوا لتدريب متخصص أصبحوا أكثر قدرة على اتخاذ قرارات فاعلة وتنفيذ مهامهم بسرعة ودقة (2) خلق بيئة عمل محفزة إذ يساهم التحول الرقمي في تقليل المهام الروتينية عبر أتمتة الإجراءات، مما يخلق بيئة عمل أكثر مرونة وتحفيزا. وهذه البيئة تساعد في رفع معدلات الرضا الوظيفي والحد من مشكلات الغياب والتسرب الوظيفي (3) بروز قيادات إدارية جديدة، فقد أفرزت بيئة العمل الرقمية جيلا جديدا من القيادات يمتلك مهارات مزدوجة في الإدارة والتكنولوجيا، مما أسهم في تغيير النمط التقليدي للقيادة في المؤسسات الحكومية.

ورغم وجود هذه الإيجابيات، فإن هناك عدة تحديات ترتبط بدور الموارد البشرية في عملية التحول الرقمي، منها: (1) مقاومة التغيير إذ يُعد التغيير التنظيمي من أصعب ما يواجه المؤسسات. وتُظهر التجربة الميدانية أن نسبة كبيرة من موظفي القطاع العام تبدي مقاومة للتحول الرقمي، نتيجة لمخاوف مرتبطة بفقدان الوظيفة أو صعوبة التأقلم مع متطلبات التكنولوجيا الحديثة، فضلاً عن غياب الدافعية الذاتية لتعلم المهارات الرقمية (2) ضعف الكفاءة الرقمية إذ لا يزال العديد من موظفي القطاع العام يفتقرون الى الحد الأدنى من الكفاءة الرقمية اللازمة للتعامل مع الأنظمة والتطبيقات الحديثة، مما يشكل تحديا أمام تطبيق التحول الرقمي بفاعلية (3) كما أن الفجوة بين الأجيال تعتبر من بين أبرز التحديات المرتبطة بالموارد البشرية، إذ ثمة تفاوتا ملحوظا في قدرة الموظفين على التعامل مع التقنيات الرقمية بين الأجيال المختلفة، فالموظفون الأصغر سِنّاً هم أكثر قدرة على استخدام المنصات الرقمية، بينما يواجه كبار السن صعوبات في التكيّف معها، مما يؤدي إلى تفاوت في الأداء داخل المؤسسة الواحدة (4) أما ضعف نظام الحوافز فيعتبر من التحديات الرئيسة إذ غالبا ما يغيب الربط بين الأداء الرقمي للموظف ونظام الحوافز والترقيات، مما يُضعف من حماسه ومشاركته في برامج التحول الرقمي (5) وأخيرا، فإن غموض الأدوار الوظيفية بعد التحول الناجم عن اعتماد الأنظمة الرقمية يؤدي إلى إحداث تغييرات جوهرية في وصف المهام الوظيفية، وقد يؤدي ذلك إلى إرباك الموظفين وخلق حالة من عدم اليقين بشأن مستقبلهم المهني، خاصة في ظل غياب سياسات واضحة لإعادة التأهيل المهني.
إن هذا كله، يستدعي إيلاء الجانب البشري أهمية قصوى عند اعتماد نهج التحول الرقمي لدى المؤسسات العامة، وكذلك مؤسسات القطاع الخاص؛ لأنه مهما بلغ مدى التقدم والنجاح في التحول الرقمي يبقى دور المورد البشري هو الأهم. وهذا الأمر يتطلب النظر إلى تجارب الدول الأخرى التي كانت رائدة في هذا المجال، والاستفادة منها، مع ضرورة تكييفها وفق متطلبات البيئة المحلية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، أطلقت حكومة سنغافورة برنامجا تدريبيا إلزاميا لموظفي الخدمة المدنية يتضمن مكونا رقميا متقدما، مع توفير حوافز مالية وفرص ترقية لتحفيز التفاعل مع التحول. وفي أستونيا اعتمدت الدولة نهجا رقميا شموليا جعل من المهارات الرقمية معيارا أساسيا في تقييم الأداء الوظيفي، وسعت إلى خلق ثقافة مؤسسية تتبنى التعلم المستمر. أما في الإمارات العربية المتحدة، فقد أطلقت الحكومة "أكاديمية الحكومة الرقمية" لتدريب وتأهيل موظفي القطاع العام، بهدف تطوير قيادات حكومية تمتلك الكفاءة لقيادة مشاريع التحول الرقمي.

توصيات لتعزيز دور الموارد البشرية في إنجاح التحول الرقمي
بهدف إنجاح عملية التحول الرقمي لدى مؤسسات القطاع العام، فإن هناك ضرورة للعمل على:
1.إطلاق برامج تأهيل وتدريب مستمر وشامل للموظفين الحكوميين.
2.تصميم أنظمة حوافز عادلة ترتبط بالأداء الرقمي والتحسينات المقترحة.
3.تعزيز ثقافة الابتكار والتجريب داخل المؤسسات الحكومية.
4.ضمان مشاركة الموظفين في قرارات التحول لضمان قبولهم وتفاعلهم.
5.الاستثمار في تأهيل القيادات الرقمية وتمكين الكفاءات الشابة.
6.تبني نظم تقييم أداء تعكس مدى التفاعل مع الأهداف الرقمية للمؤسسة.
7.والأهم من ذلك كله، وجود الإرادة الإدارية.

إن التحول الرقمي في القطاع العام لا يُعد مجرد عملية فنية أو تقنية، بل هو تغيير ثقافي وسلوكي عميق يتطلب التزاما مؤسسيا طويل الأمد. وتكمن أهمية الموارد البشرية في كونها الأداة التي تُنفّذ من خلالها هذه الرؤيا، كما أنها تُعد الشريك الأهم في صياغة مستقبل الإدارة العامة. ومن هنا، فإن الاستثمار في الكفاءات الحكومية، وتدريبها، وتحفيزها، يمثل حجر الزاوية في أي إستراتيجية رقمية ناجحة. فالموظف الحكومي ليس فقط منفذا للسياسات، بل هو ركيزة للتحول، وقائد للتغيير، وفاعل أساسي في تحقيق أهداف الدولة الرقمية.



عدد المشاهدات : (5511)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :