أوسلو .. من سلام مُعلَن إلى مشروع تصفية معلَن


رم - أ.د. علي النحلة حياصات
منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات والحكومة الإسرائيلية آنذاك برئاسة إسحاق رابين، تولّد لديّ يقين مبكر بأن هذه الاتفاقية لن تقود إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة، ولن تمنح الفلسطينيين حق تقرير مصيرهم على أرضهم. لم يكن هذا الشعور وليد العاطفة، بل نابع من قراءة واقعية لميزان القوى، ولعقيدة الاحتلال القائمة على الاستيطان والضم، لا المساومة والتسويات.
بعد اغتيال رابين، عاد اليمين الإسرائيلي ليهيمن على المشهد، بينما بقيت السلطة الفلسطينية المولودة من رحم أوسلو تفتقر لأدوات الفعل، وتحوّلت تدريجياً إلى كيان إداري هش، يتماهى مع متطلبات "التنسيق الأمني"، أكثر مما يمثل مشروع تحرر وطني. وبموازاة ذلك، استمر قضم الأرض وتوسيع المستوطنات تحت نظر العالم، فيما انشغل العرب بأنظمتهم أو بأزماتهم، وتراجع الدعم الشعبي للقضية الفلسطينية أمام انسداد الأفق وانهيار الثقة.
في عام 2010، وخلال زيارة أكاديمية إلى الضفة الغربية لمقارنة الإرث العمراني والاجتماعي بين مدينتي نابلس والسلط، أجريت استطلاعًا عفويًا مع عدد من الفلسطينيين في بعض مدن الضفة الغربية حول رؤيتهم لمستقبلهم في ظل انسداد الأفق السياسي وتدهور الأوضاع المعيشية. طرحت عليهم ثلاثة خيارات افتراضية: البقاء تحت إدارة السلطة الفلسطينية، أو الهجرة إلى الأردن، أو العيش ضمن دولة إسرائيل. جاءت الإجابات صادمة: الغالبية فضّلت الاندماج ضمن إسرائيل، بحثًا عن الحد الأدنى من الاستقرار الاقتصادي والخدمات، في مؤشر واضح على تآكل الثقة بالسلطة وتعبٍ حقيقي من واقع الانقسام والبطالة. نسبة أقل اختارت الهجرة إلى الأردن، بينما عبّر عدد قليل فقط عن تمسكه بالبقاء على أرضه مهما كانت الظروف، لكن كلماتهم ظلّت الأكثر رسوخًا في الذاكرة بالنسبة لي.
ثم جاءت كارثة 7 أكتوبر 2023 لتكشف هشاشة كل ما تبقى من معادلات "السلام". العملية المسلحة التي نفذتها حماس فجّرت ردًّا إسرائيليًا غير مسبوق دمّر غزة وأعاد إنتاج خطاب "الأمن الإسرائيلي المطلق"، وأقصى أي حديث عن الحقوق الفلسطينية. المجتمع الدولي تواطأ بالصمت أو التبرير، والعالم العربي غارق في عجزه. أما إسرائيل، فوجدت في اللحظة فرصة ذهبية لتكريس رؤيتها: لا دولة فلسطينية، ولا عودة، ولا شريك.
في ظل هذا السياق، أصبحت الضفة الغربية في طريقها إلى الضم الرسمي، لا كاحتمال مستقبلي، بل كخطة تنفيذية مدعومة من حكومة إسرائيلية متطرفة ، ترى في السلطة الفلسطينية عبئًا منتهي الصلاحية. الشرعية تتآكل، والحالة الوطنية الفلسطينية مفككة، والأفق مسدود، في حين تُطرح مشاريع التهجير والحلول البديلة علنًا، بما يضع الأردن أمام تهديد وجودي مباشر، سياسيًا وديمغرافيًا وأمنيًا.
الضم الزاحف للضفة اليوم هو إعلان دفن رسمي لاتفاق أوسلو، وربما نعي مبكر لمعاهدة وادي عربة الموقعة بين الأردن وإسرائيل عام 1994، والتي فقدت مضمونها تدريجيًا أمام سياسات فرض الأمر الواقع من جانب واحد.
ليست هذه النظرة تعبيرًا عن تشاؤم أو استسلام، بل محاولة لقراءة لحظة تاريخية فارقة بوعي وواقعية. فما نحتاجه اليوم ليس العودة إلى أوهام "العملية السلمية" التي أثبتت عجزها، بل الإقرار الصريح بفشل نموذج أوسلو بكل ما حمله من وعود مؤجلة ومسارات مغلقة. المطلوب الآن هو الانتقال إلى رؤية جديدة تنطلق من تثبيت الوجود الفلسطيني على أرضه كحق لا يقبل المساومة، لا مجرد إدارة يومية لحياته تحت الاحتلال. رؤية تدعم صموده الحقيقي بدل الاكتفاء باحتوائه أو التكيف مع معاناته، وتتصدى بوضوح لمشروع التصفية المتدرج، بدلاً من التعامل معه كأمر واقع لا يمكن تغييره
فالسلام لا يصنعه الاستسلام، ولا ينهض على أنقاض العدالة. وكل استقرار زائف فوق الظلم، لا يدوم.



عدد المشاهدات : (6545)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :