غزة تنتصر من الداخل وتنهي حياة غزاتها بالانهيار النفسي والانتحار !


رم -


مهدي مبارك عبد الله

عندما يكون الانهيار النفسي أقوى من الرصاص والعدوان يتحول على منفذيه الى انتحار وهزيمة على الرغم من ضيق مساحتها الجغرافية مثلت غزة على الدوام إحدى أعقد بؤر الصراع الملتهبة في الشرق الأوسط من حيث الأثر النفسي والعسكري ولطالما سعت إسرائيل إلى فرض سيطرة مباشرة أو غير مباشرة على القطاع من خلال عملياتها العسكرية المتكررة غير أنها لم تستطيع تحقيق نصر حاسم ومع كل عدوان داخل غزة كانت تتفاقم أزمات جنودها النفسية وترتفع معدلات الانتحار بينهم حيث شكلت غزة بوصفها منطقة مغلقة وتحت سيطرة المقاومة تحديًا عملياتيًا ونفسيًا للجيش الإسرائيلي الذي واجه تكتيكات غير تقليدية في بيئة قتال متشابكة وكثافة سكانية معقدة

ظاهرة الانتحار المتواصل في صفوف الجنود ليست جديدة لكنها اتخذت بعدًا مقلقًا داخل الجيش الإسرائيلي بعد حرب غزة الأخيرة جيث تؤكد شهادات الجنود المنتحرين أو من سبقوهم إلى المصحات النفسية أن غزة لم تكن ساحة معركة فحسب بل كانت ميدان شرس لتحطيم النفوس وهذه الانفجارات النفسية ليست ناتجة فقط عن خوف الجنود من الموت بل أيضًا انعكاس للذنوب المتراكمة بسبب الجرائم اليومية التي ارتكبوها خاصة في ظل التغطيات الاعلامية المركزة التي أظهرت مشاهد مروعة لمجازر إسرائيل بحق المدنيين حتى ان بعض الجنود اعترفوا بأنهم لم يعودوا قادرين على النظر في عيون أطفالهم بعد أن قتلوا أطفالًا في غزة بأعمارهم حيث يصفهم مختصون نفسيون بأنهم يمرّون بحالة تفكك أخلاقي وهم يجدون أنفسهم غير قادرين على التوفيق بين ما فعلوه وما يؤمنون به في اعماقهم

تفاقم حالة العزلة العاطفية سيطرت على حياة الجنود الاسرائيليين بعد عودتهم من جبهات القتال في غزة وكثيرون منهم فشلوا في العودة لحياتهم الطبيعية وهم يشعرون بأن لا أحد يفهمهم وأن ما مروا به لا يمكن وصفه ليدخلوا النفق المظلم في مسيرة التفكك العائلي والعنف الاسري والعدمية وهوما قاد البعض منهم إلى اتخاذ القرار بإنهاء حياته وقد نقلت وسائل إعلام عبرية عن إحدى الأمهات أن ابنها الجندي المنتحر لم يكن ينام إلا وهو( يشم رائحة اللحم البشري المحترق ) ولم تفارق ذاكرته صور رفاقه المقطّعين وهو يحملهم على نقالة من غزة هذه الصور التي اعتبرت إنجازات عسكرية في نشرات اخبار الجيش تحولت الان إلى كوابيس تطارد الجنود وتفتك بأرواحهم بكل صمت وعذاب

وفي حادثة اخرى أكثر بشاعة أشعل جندي يُدعى ( دانيال إدري ) النار في نفسه داخل سيارته في غابة معزولة قرب صفد بعدما فشل في الحصول على علاج نفسي رغم شكواه المستمرة من سماعه صوت صراخ مستمر في أذنه ورائحة الدماء التي تطارده ولعل أهم العوامل التي فاقمت الأزمة النفسية للجنود الاسرائيليين هي فشلهم في تحقيق نصر عسكري حاسم رغم استعمالهم أقصى درجات القوة والدمار حيث واجهوا مقاومة شديدة من حركات المقاومة في غزة خاصة في جباليا وخان يونس والشجاعية حيث الكمائن والعبوات والانفجارات تحت الآليات التي جعلت كثيرين منهم يفقدون الثقة بقدرتهم على النجاة وبعد عجزهم عن تحقيق تقدم تحطمت معنويات الجنود الذين دخلوا الحرب وهم يظنون أنها نزهة فوجدوا أنفسهم في جحيم قتالي ونفسي لا مخرج منه

العديد من الصحف العبرية تحدثت مؤخرا عن انتحار طيار برتبة رائد خدم سابقًا في وحدة 8200 الاستخباراتية وقال قبل موته إنه لم يعد يحتمل صور الأهداف المدنية التي كان يقصفها وصراخ الأطفال تحت الركام ورغم خدمته الطويلة لم تنقذه الرتب والمهارات من الدخول في اختناق روحي متواصل لم يجد علاجًا له سوى رصاصة عذاب الضمير موجهة إلى رأسه داخل غابة نائية

بتسارع واضح لا زال جنود الاحتلال يتساقطون منتحرين على أبواب غزة والرقابة العسكرية لا تريد أن يظهر الجيش متداعي نفسيًا أمام جمهوره لذلك رفضت الكشف عن أعداد المنتحرين لا توجد أرقام رسمية منشورة بهذا الصدد رغم مطالبات برلمانية متكررة في الكنيست لقادة الجيش الا انهم يرفضون عقد جلسات طارئة للنقاش ويؤجلون الكشف عن المعلومات إلى يناير عام 2026 ومع تزايد هذه الحوادث اصبح يطرح السؤال بقوة لماذا ينتحر جنود الاحتلال العائدون من غزة وما الذي جرى لهم هناك حتى فضلوا الموت بأيديهم بعد أن مارسوه ابشع المجازر والابادة الجماعية بحق الألاف الفلسطينيين

بحسب مصادر غير رسمية منها المعارضة الاسرائيلية فان العدد الإجمالي لمجموع حالات الانتحار منذ أكتوبر 2023 وحتى نهاية 2023 كان حوالي 7 حالات وفي عام 2024 21 حالة انتحار وهو أعلى معدل خلال 13 عام ومن كانون الثاني حتى يوليو 2025 بين 15 إلى 18 حالة حيث كانت الغالبية العظمى من المنتحرين من الجنود الاحتياطيين الذين واجهوا ضغوطً مركبة خلال خدمتهم في غزة حيث اُستدعي أكثر من 300 ألف منهم للقتال وقد اظهرت تقارير متخصصة أن ( واحدًا من كل ثمانية ) من الجنود الاحتياطيين يعانون من اعراض اضرار نفسية حادة تمنعهم من اعادة الاندماج في الخدمة والمجتمع ولهذا طالب اعضاء في الكنيست الاسرائيلي بضرورة إعادة النظر في الدعم الإنساني والنفسي المقدم للجنود وإجراء تحقيق عاجل في اسباب تفاقم هذه الظاهرة التي تتعمق بشكل متسارع وتهدد الجاهزية القتالية للجنود وتضعف الثقة العامة بأنفسهم نتيجة تواصل الحرب في غزة

معظم الدراسات النفسية الحديثة تشير إلى أن البيئات القتالية غير التقليدية والتي تكون فيها حدود العدو غير مرئية والتعرض للخطر متواصل تسهم بشكل كبير في تكوين ما يعرف بـاضطراب ما بعد الصدمة حيث يواجه الجنود الإسرائيليون في غزة خصمًا لا يتحرك وفق قواعد الاشتباك الكلاسيكية السائدة بل يعتمد على أنفاق تحت الأرض وعمليات قنص من مسافات قريبة ومفاجآت تكتيكية متنوعة ومتكررة افقدت الجنود الاسرائيليين قدرتهم على الصبر والاحتمال

هنالك عدة شهادات وردت لجنود احتياط وأفراد في وحدات النخبة تحدثوا فيها عن رؤيتهم لكوابيس مفزعة وقلق دائم ونوبات ذعر وارتباك بعد خدمتهم في غزة وأحد الجنود اعترف بأنه اصبح ( يبول على نفسه ليلًا ويضرب زوجته يوميًا ) لأنه لا يستطيع الهروب من مشاهد القذائف والموت المحيط به وجندي آخر أطلق النار على رفاقه في قاعدة عسكرية ظنّا منه أنه لا يزال وسط المعركة في غزة تلك الحالات احدثت شرخًا نفسيًا لدى الجنود رغم امتلاكهم احدث الأسلحة وتفوقهم العددي والتكنولوجي الا ان كثير منهم يعودون من قطاع غزة وهم يحملون على ظهورهم أشباح مرعبة جراء ما ارتكبوه أمام عدو لا يُرى

علميا حالات الانتحار المتكررة تعتبر مؤشر حاسم على التوتر النفسي الداخلي وفي عام 2023 أفادت دائرة الصحة النفسية في وزارة الدفاع الإسرائيلية بزيادة ملحوظة في أعداد الجنود الذين يلجؤون للعلاج النفسي بعد خدمتهم في غزة حيث صرح ضباط سابقون بأن بعض الوحدات القتالية خصوصًا من قوات الاحتياط تعاني من انهيار نفسي بعد العمليات القتالية الطويلة داخل القطاع

وفقا لأبحاث ودراسات منهجيةالمقاومة الفلسطينية المنظمة في غزة لم تعد مجرد مجموعات مسلحة تقاتل بقوة وثبات بل أصبحت نموذجً معقد من مسارات الحرب النفسية والتكتيكية من خلال استخدامها للأنفاق والكمائن والمسيرات المفخخة والتي ساهمت في خلق حالة من الرعب والخوف المستمرين لدى الجنود الإسرائيليين ما أفقدهم الشعور بالأمان والسيطرة وهما عنصران أساسيان في التوازن النفسي أثناء القتال كما عبر بعض الجنود العائدين من غزة عن شعورهم المرير بأنهم كانوا فريسة سهلة في متاهات اشباح غير مرئية أثرت على بنيتهم النفسية وتوازنهم العقلي

ما يجب فهمه في هذه الحرب الظالمة أن العمليات العسكرية في غزة لم تقتصر نتائجها على الخسائر العسكرية والمادية والسياسية فحسب بل امتدت الى التسبب بأزمات نفسية عميقة في صفوف الجنود الإسرائيليين حيث استطاعت المقاومة الفلسطينية عبر أدواتها المحدودة والفعالة أن تحول الجبهة العسكرية إلى جبهة حرب نفسية جعلت من غزة ساحة ينهزم فيها الجندي الإسرائيلي من داخله دون اطلاق أي رصاصة وهو يواجه ذاته أكثر مما يواجه خصمه

خلاصة : يمكننا القول إن غزة لم تنهِ حياة غزاتها بالبارود والنار وحده بل قضت عليهم من الداخل حين أصبح الانتحار واقع حقيقي لانهيار منظومة السيطرة والردع الإسرائيلية أمام صمود غير مسبوق تحول فيه الانهيار النفسي الى سلاح مدمر في وجه الاحتلال والجنود الذين صمتوا وهم يرتكبون المجازر باتوا يصرخون وحدهم في الليل والنهار حتى اختار بعضهم انهاء حياته بسرعة هربًا من موت داخلي أشد عذاب و ألم بينما يواصل جيش الاحتلال عدوانه الهمجي تتساقط أوراقه من الداخل في معركة لا تظهر في الإعلام لكنها تحصد ارواح جنوده بعجز وصمت فهل سيعترف الاحتلال يومًا بأن غزة هزمته في ميدانه الأخلاقي قبل أن تهزمه على الأرض

كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]







عدد المشاهدات : (982)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :