نادر الذهبي .. الطيّار الذي لم يسقط


رم - خاص
في السياسة، كما في الطيران، لا يكفي أن تقلع… الأهم أن تهبط بسلام، دون أن يُصاب أحد بخدش، ودون أن يراك أحد وأنت تحارب العواصف.
نادر الذهبي، لم يكن طيّاراً فقط… كان مدرسة في فن التحليق الصامت.
ولد في عمان داخل بيتٍ تقليدي تخرج منه للسماء، لا للمنابر.
درس في كلية الحسين، ثم مضى إلى اليونان، فبريطانيا، فواحدة من جامعات أميركا، جامعاً بين ميكانيكا الهواء وهندسة القرار، رجل لا يكتفي بشهادة، بل يصنع منها طاولة عمل.
بدأ مسيرته العسكرية شاباً في سلاح الجو الملكي الأردني، وتدرّج حتى صار قائده.
هناك، في قلب السرب، تشكّل فهمه للدقة والانضباط، لم يكن يصرخ في الجنود، بل كان يعلّمهم أن السماء لا تحتمل الخطأ، وأن التردد أخطر من العدو.
ثم انتقل من الطيران إلى الطيران المدني، فقاد الملكية الأردنية في أصعب مراحلها، وعرف مطارات السياسة، وجوازات الاقتصاد، وكراسي القرار التي لا تستقر إلا لمن لا يهتز.
لم يكن رجلاً يتباهى بالبدلة، بل رجلاً يُحسب له الحساب داخل القاعات المغلقة، لأنه ببساطة… لا يتكلم كثيراً، لكن حين يتكلم، يغير شيئاً.
حين دخل الوزارة، حمل حقيبتي النقل والسياحة كمن يحمل حقيبة سفر، يعرف إلى أين يتجه، لا يتزلف للكاميرا، ولا يزاحم في الصفوف الأولى، بل يتقدم بصمت، رجل من طراز إداري نادر، يرى المنصب أداة لا غاية.
في العقبة، قاد المنطقة الاقتصادية الخاصة كما تُدار غرفة عمليات في برج مراقبة، لم يكن مستثمرو المرحلة قد تعوّدوا على مسؤول لا يُغريه العشاء ولا المكافآت، لكنه ترك وراءه مساراً واضحاً، لا يحتاج شرحاً.
ثم جاء الموعد، في تشرين الثاني 2007، دعاه الملك عبدالله الثاني ليقود الحكومة، في واحدة من أصعب اللحظات، الأسواق قلقة، والطاقة تكاد تخنق الميزانية، وملف الخصخصة مفتوح كالجرح.
الذهبي لم يكن رجل صفقات… كان رجل خيارات، فقرر، بهدوئه المعروف، أن يمضي في إعادة هيكلة الاقتصاد، ولو كره الغاضبون.
رفع الدعم تدريجياً، نظم فاتورة الطاقة، ضيّق الإنفاق، لم يبتسم كثيراً على الشاشة، لكنه كان يعرف أن الابتسامات لا تدفع الديون، وفي الوقت الذي كانت النخب تطالب بالمزيد، كان هو يطلب حساب الأثر.
رجل بلا مظلة حزبية، ولا حلف مصرفي، كان اعتماده الوحيد على عقله، وسيرته، ويده النظيفة.
داخل الكواليس، لم يكن محبوبًا من البعض، لكنه كان محترمًا من الجميع، الذين أرادوا تلزيم الدولة لم يجدوا فيه صديقاً، والذين أرادوا معارك شعبوية، لم يجدوا فيه خصماً.
ظل واقفاً في المنتصف، كمن ينظّم حركة طائرات في عاصفة، لا يصرخ، لا يرتبك، بل يُصدر التعليمات كما تُصدر أحكام المهنة بلا نبرة زائدة.
لم يُحسب عليه ملف فساد، ولم يكن من أولئك الذين يوسّعون مزارعهم بعد مغادرة المنصب، وحين غادر في كانون الأول 2009، لم يأخذ شيئًا معه، إلا سمعته.
هو رئيس وزراء نادر بالفعل، لم يُشكّك في وطنيته، ولا في نواياه، رجل قاد الحكومة كما يقود طائرته، بدون مناورة استعراضية، وبدون سقوط.
قد لا تراه في الكثير من حفلات العلاقات العامة، ولا يُدلّي بتصريحات درامية، لكنه موجود في دفتر الدولة، في ذاكرة المؤسسات، وفي جملة واحدة تختصره:
"طيّار لم يسقط."



عدد المشاهدات : (6343)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :