انتماء مع وقف التنفيذ


رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي

“ليس الوطن فندقًا نغادره حين تسوء الخدمة؛ بل بيتٌ نُعيد ترميمه بأيدينا.”

— جبران خليل جبران

بهذه الكلمات العميقة يمكن أن نُلخّص جوهر الإشكال الذي يواجه اليوم فئة واسعة من الشباب الأردني وهم يتلمّسون طريقهم إلى مواطنة فاعلة في وطن يكاد يُرهقهم بالتحديات أكثر مما يُلهمهم بالفرص.

في زمن التحولات الكبرى، تبرز أسئلة للدولة والمجتمع بأشد وضوحها وحدّتها. ولعلّ من بين أكثر هذه الأسئلة إلحاحاً في المشهد الأردني اليوم سؤال “المواطنة الفاعلة” لدى فئة الشباب. ليس سؤالاً نظرياً ولا ترفاً فكرياً، بل هو سؤال يرتبط بمصير وطن بأكمله، في ظل جيل يشكّل أكثر من نصف المجتمع، ويقف على عتبة مستقبل ملغوم بالتحديات والفرص في آن معاً.

لقد بات واضحاً أن مفهوم المواطنة في الوعي الشبابي الأردني يمرّ بحالة إعادة تعريف عميقة. فقد تجاوزت الأجيال الشابة الصورة التقليدية للمواطنة التي تُختزل في حمل الجنسية أو أداء الواجبات الشكلية، وأصبحت تبحث عن مواطنة فاعلة: مواطنة تقوم على الحقوق والحريات، المشاركة الواعية، المبادرة المجتمعية، مساءلة الأداء العام، وحمل الهمّ الوطني بجرأة ومسؤولية.

لكن هل يجد الشباب الأردني اليوم بيئة سياسية واجتماعية واقتصادية تتيح له أن يمارس هذه المواطنة الفاعلة؟

تشير الدراسات الحديثة إلى معدلات متواضعة لمشاركة الشباب في القنوات السياسية الرسمية: انتخابات نيابية وبلدية، الأحزاب، النقابات. كثير من الشباب يعزفون عن هذه القنوات، إما بسبب فقدان الثقة بجدواها، أو لشعورهم بأنها لا تمثّلهم فعلياً.

وفي الوقت ذاته، ينشط آلاف الشباب في مساحات بديلة: العمل التطوعي، المبادرات المجتمعية، حملات التوعية على السوشيال ميديا، الدفاع عن قضايا محلية. لكنها جهود متناثرة وغير مؤطرة، وغالباً ما تصطدم بسقف محدود من الحريات والتمكين.

الهوة بين الشباب والدولة ليست في الأرقام وحدها، بل في الوجدان العميق. هناك فجوة ثقة متزايدة. شباب يشعرون بأن الدولة “تطلب منهم الولاء لكنها لا تعطيهم حقوقاً كافية”، وبأن أصواتهم إما مُهمّشة أو مُؤدلجة.

عندما ننظر إلى عوائق بناء المواطنة الفاعلة في الأردن، نجدها متعددة الأبعاد:

​1.​اقتصادياً: نسب بطالة مرتفعة بين الشباب تخلق شعوراً بالتهميش وفقدان الأمل، مما يضعف دافعهم للمشاركة البناءة.

​2.​تعليمياً: النظام التعليمي، رغم بعض المحاولات، لا يُعطي التربية على المواطنة والمسؤولية الاجتماعية الوزن الكافي. قيم المشاركة والحوار والمساءلة لا تُزرع مبكراً.

​3.​سياسياً: البيروقراطية، وضعف القنوات المؤسسية لتمثيل الشباب، وغياب الإصلاحات العميقة في الحياة الحزبية، تجعل كثيراً من الشباب يرون السياسة لعبة نخبوية مغلقة.

​4.​ثقافياً وإعلامياً: كثير من الخطاب العام يعيد إنتاج صورة نمطية للشباب: إمّا متهم باللامبالاة، أو يُختصر في مشاهد عنف هنا وهناك. هذا يحبط الفاعلين منهم بدل أن يعزز حضورهم.



رغم هذه التحديات، يحمل الواقع الشبابي اليوم بوادر أمل ينبغي التقاطها بذكاء:

​•​حركة ريادة الأعمال الشبابية في نمو ملحوظ، بما تعكسه من روح المبادرة والمواطنة الاقتصادية الفاعلة.

​•​المبادرات الشبابية المحلية في مجالات البيئة، التعليم، الثقافة، تثبت أن هناك جيلًا واعيًا يستطيع أن يتحمل مسؤولية وطنه إذا أُعطي المساحة.

​•​بعض الجهود الرسمية الجديدة (مثل تحديث القوانين السياسية، دعم العمل التطوعي) يمكن أن تكون بداية لبناء جسر جديد بين الدولة والشباب.

لكن الأهم من ذلك أن يُعاد بناء عقد اجتماعي جديد بين الدولة والشباب، قوامه:

​•​إصلاح التعليم بما يعزز التربية على المواطنة الحقيقية.

​•​تمكين اقتصادي فعلي للشباب يحرّرهم من قيد البطالة والهشاشة.

​•​فتح القنوات المؤسسية أمام الشباب ليكونوا شريكاً في رسم السياسات، لا مجرد متلقٍّ لها.

إن سؤال المواطنة الفاعلة ليس سؤالاً للشباب وحدهم، بل هو سؤال للدولة بأكملها:

أي نوع من الدولة نريد أن نبني؟ دولة الرعية أم دولة المواطنين؟

وأي نوع من المواطن نريد؟ مكتفٍ بأداء واجبات شكلية، أم شاباً فاعلاً، ناقداً، مبادراً، شريكاً في بناء وطنه؟

إذا لم تستطع الدولة والمجتمع أن يجيبا على هذا السؤال إجابة تقدمية، عادلة، وملهمة، فإننا سنخسر أعز ما نملك: جيل المستقبل.

ولأن الشباب الأردني، برغم كل العوائق، ما يزال يحمل في روحه تلك الشعلة الدافئة من حب الوطن والرغبة في خدمته، فإن من واجبنا جميعاً أن نمكّنه من أن يكون مواطناً فاعلاً بحق ، لا متفرجاً ولا محبطاً.

مستقبل الأردن يُكتب اليوم… بأيدي هؤلاء الشباب.

إن أسوأ ما يمكن أن يحدث لوطن أن يكبر شبابه وهم مقتنعون أن أصواتهم لا تعني شيئًا، وأن وجودهم لا يصنع فرقاً، فالدولة التي لا تصغي لشبابها، لن تجد غدًا من يصغي لها.



عدد المشاهدات : (4777)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :