رم - في كتابه "النظام السياسي في عالم متغير"، يطرح صامويل هنتنغتون فكرة جوهرية: ان الدولة خير في كل الاحوال حتى وان كانت سلطوية قمعية في مراحلها الاولى، أن غياب المؤسسات السياسية الفاعلة يفضي حتميًا إلى الفوضى، حتى وإن بقيت الدولة قائمة شكليًا. إذ لا يكفي وجود سلطة اسمية أو حكومة رسمية؛ بل المطلوب وجود مؤسسات قادرة على تحويل مطالب المجتمع إلى سياسات وتنظيم حياته العامة.
هذا التصور ينطبق بوضوح على ما تعيشه محافظة السويداء السورية اليوم، حيث تشهد حالة فراغ مؤسساتي خانق. فمنذ أكثر من مئتي يوم، يرفض شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، حكمت الهجري، ومعه شريحة من أتباعه، السماح بدخول مؤسسات الدولة السورية الجديدة إلى المحافظة. ومع تراجع نفوذ دمشق وانسحاب أجهزتها الأمنية والعسكرية، برزت قوى محلية بديلة، في مقدمتها ما يُعرف بـ"المجلس العسكري" الذي تأسس في يوليو/تموز 2025 بقيادة العقيد المنشق عن جيش بشار الأسد طارق الشوفي.
إلا أن هذه الكيانات، رغم صخبها وحضورها الإعلامي، لم ترتقِ إلى مستوى المؤسسة السياسية الحقيقية التي يتحدث عنها هنتنغتون؛ فهي تفتقر إلى الشرعية الدستورية، والإطار القانوني الموحد، والقدرة البيروقراطية على إدارة الشأن العام. ومع ذلك، ورغم الاعتداء على محافظ السويداء شخصيًا داخل مكتبه، تمسكت الدولة السورية بضبط النفس وتجنب الصدام، مراهنةً على تسوية سلمية. لكن النتيجة، كما يصفها هنتنغتون، كانت "اللادولة": سلطة موزعة بين قوى متضاربة، قانون غائب، وعلاقات شخصية وعائلية وطائفية تحكم الناس.
هنتنغتون يشير بوضوح إلى أن المجتمعات التي تخوض غمار التحديث دون أن توازيه مؤسسات سياسية قوية ستجد نفسها في مواجهة الفوضى والانقلابات والصراعات الأهلية. وهذا ما نشهده في السويداء، من خلال تصاعد الاحتجاجات والنزاعات المسلحة بين مجموعات محلية، وانتشار السلاح العشوائي، وظهور جماعات مسلحة تدّعي حماية الناس بينما تمارس في الواقع انتهاكات وجرائم، خاصة ضد أبناء العشائر.
المشكلة هنا ليست أمنية أو اقتصادية فحسب، بل هي أزمة نظام سياسي حقيقي. فغياب الدولة عن السويداء ترك فراغًا لم تملأه قوى مدنية حديثة، بل قوى ما قبل الدولة: العائلة، الطائفة، الزعامات التقليدية. وهذا تمامًا ما حذر منه هنتنغتون، حين أكد أن ضعف المؤسسات يدفع المجتمعات للارتداد نحو الولاءات الأولية.
في المحصلة، تبدو السويداء اليوم تجسيدًا حيًا لما وصفه هنتنغتون بـ"الفوضى الناتجة عن التحديث غير المتوازن". فوجود مجتمع متعلم نسبيًا وذو مطالب سياسية ليس كافيًا لبناء الدولة؛ ما لم توجد مؤسسات قوية وشرعية، ستظل تلك المطالب وقودًا للفوضى، لا أساسًا لبناء نظام سياسي مستقر.
د. مخلد البكر