رم - مهدي مبارك عبد الله
من المؤكد ان تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية ( IAEA ) التابعة للأمم المتحدة الذي أشرف على تلفيقه مديرها العام ( رافايل غروسي ) بما تضمنه من انحياز فاضح ونزاهة مخزية ومهنية مشبوهة منح فيها إسرائيل فرصة على طبق من ذهب لقصف الأراضي الإيرانية بذريعة عدم التزامها بتعهداتها النووية ووجود ترجيحات قوية حول إمكانية امتلاك طهران أسلحة نووية تشكل خطراً على أمن إسرائيل ومصالحها وقد تغير وجه المنطقة بالكامل بحسب في وقتٍ يجب أن تكون فيه الوكالة أكثر مصداقية وحياد في عملها لوأد أي شرارة حرب مفترضة
في يوم 1 حزيران / يونيو من الشهر الماضي قامت الوكالة الدولية بضغط من واشنطن وقبل استئناف المفاوضات النووية التي كان من المقرر عقدها مع الجانب الأميركي في عُمان بإصدار تقرير يحذّر من تزايد حجم اليورانيوم المخصب في حوزة النظام الإيراني وعدم تعاون طهران مع المفتشين الدوليين كما أشارت الوكالة الدولية أيضاً إلى أنّه يتعذّر عليها معرفة ما إذا كان البرنامج النووي الإيراني سلمياً وحصرياً وفق بنود الاتفاق النوويّ الموقع عام 2015 وليس لدينا معلومات دقيقة تفيد أنّ إيران لا تسعى لامتلاك أسلحة نووية ولن تفعل ذلك لسنوات
المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية غروسي الذي اتهم في تقريره إيران بعدم احترام تعهداتها لجهة كمية التخصيب النووي، مشيراً إلى أنّه تراكم لدى إيران 604 كلغ من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% بزيادة 130 كلغ عن التقرير السابق للوكالة في شهر شباط/ فبراير الماضي وقد كان يصر بالاستعجال في التفتيش على المنشآت النووية الإيرانية بعد الحرب لإن إيران نفذت في السابق أنشطة نووية سرية بمواد لم تعلن عنها للوكالة وللتأكد ايضا من مزاعم ترامب والبنتاجون من تدمير منشآت فوردو ونظنز وأصفهان وكأنه رسول إسرائيل والدولة الأمريكية العميقة التي تعمل على كشف كذب ترامب تمهيدا لمحاكمته بتهمة خداع وتضليل الأمريكيين بشأن البرنامج النووي الإيراني استكمالا لهيمنة الإمبريالية على العالم
إيران من جانبها اكدت عدم صحة ومهنية وحيادية ما ورد في التقرير وأن كل نشاطات منشآتها لا زالت تحت مراقبة وكالة الطاقة الذرية وكل عمليات الإنتاج التي تجري داخلها لا تتجاوز الحدود المتفق عليها دولياً وهو ما يثير الشكوك حول مهمة غروسي وامكانية تواطؤه وتستره على الحقائق واستناده الى مزاعم لا أساس لها قدمتها للوكالة مسبقا كل من امريكا ودول الترويكا الأوروبية ( فرنسا ألمانيا إيطاليا ) حيث استغل التقرير كذريعة أخيرة لتمكين اسرائيل عبر رواية ضالة من شن هجمات غير قانونية ضد منشآت إيران النووية السلمية والتي أسفرت عن مقتل عدد من كبار القادة العسكريين والعلماء والمدنيين الأبرياء
كان اولى برئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية ان يخرج على العالم في لقاء صحفي جريء يعترف فيه بشكل واضخ وصريح بان الهجمات الاسرائيلية والامريكية على المنشآت النووية تعد انتهاكاً صارخا لاتفاقيات جنيف وبروتوكولاته ذات الصلة والنظام الأساسي للوكالة ومعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية واتفاق الضمانات الشاملة بين إيران والوكالة وقرارات مجلس المحافظين والمؤتمر العام للوكالة ومعايير السلامة الخاصة بالوكالة وكان عليه ايضا إدانة هذه التصرفات المخالفة للأنظمة الدولية ومطالبته اسرائيل بالالتزام بالواجبات المنصوص عليها في النظام الأساسي للوكالة
قبل يومين من العدوان الأميركي على إيران على خلفية تقرير غروسي ومع تعاظم الإثباتات الدولية التي تبطل صحة مزاعمه بدأ المدير العام للوكالة بتبديل نبرته خلال تصريحاته الصحفية حيث ألمح إلى أن إيران لم يكن لديها سلاح نووي عند إعلان التقرير ولكنها تملك العناصر الاساسية التي تمكنها من امتلاكه في المستقبل كما حذّر من تكرار سيناريو العراق في إيران وطالب عدم الانزلاق إلى تقديرات زمنية غير دقيقة بشأن المدة التي قد تحتاجها إيران لتطوير سلاح نووي
اندفاع مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في إصدار تقريره المتعلق بالبرنامج النووي الإيراني وصمته إزاء العدوان الاسرائيلي حصل نتيجة ضغوط واشنطن على دول عديدة أعضاء في الوكالة ومطالبتها بالتشدد في مواقفها من إيران حيث تجاوب لأرجنتيني غروسي الطامح لمنصب الأمين العام للأمم المتحدة بعد انتهاء ولاية الأمين العام الحالي أنطونيو غوتيريس في 31 كانون الأول 2026 حيث الأمين العام القادم سيكون من حصة أميركا اللاتينيّة
تصريحات غروسي المتذبذبة بمنطوق خيانة للأمانة أعادت إلى الأذهان ما جرى العراق عام 2003 حين روجت كل من امريكا والمملكة المتحدة لمزاعم بأن نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شاما ما شكل وقتها ذريعة مقبولة لغزو البلاد خاصة بعدما زعم رئيس الوزراء البريطاني توني بلير أن العراق يمتلك خططاً عسكرية جاهزة لاستخدام أسلحة كيماوية وبيولوجية يمكن تفعيلها خلال 45 دقيقة وأنه يسعى للحصول على أسلحة نووية
تبين لاحقاً انها مجرد اكاذيب ومزاعم خاطئة ومفبركة وفقاً لتقارير رسمية وتحقيقات مستقلة أبرزها تحقيق هوتون ولجنة تشيلكوت ومن بين الوثائق المزيفة التي استند إليها ايضا رسالة مزعومة من وزير خارجية نيجيريا تتحدث عن صفقة يورانيوم مع العراق رغم أن الوزير المذكور كان قد غادر منصبه قبل 11 عاماً من تاريخ الوثيقة وبحسب تقارير لاحقة لم تجد مجموعة مسح العراق ( ISG ) وهي فريق تحقيق تقني أرسلته واشنطن ولندن بعد الغزو أي دليل على وجود برنامج نشِط لأسلحة الدمار الشامل رغم تأكيدات إدارة بوش وحكومة بلير آنذاك
اعتراف غروسي بعدم وجود أسلحة استراتيجية لدى إيران جاء متأخراً جداً وبعد خراب مالطا كما يقولون لأن الحقيقة التي أخفاها عند الحاجة واعترف بها لاحقاً كانت المبرر والسبب المباشر في قرار مجلس المحافظين المعادي لإيران بتمكين اسرائيل من العدوان المباشر على المنشآت النووية والمدنيين الإيرانيين وهو ما يؤكد بالوثائق عمل غروسي لمصلحة إسرائيل وبما يخالف مسؤولياته المهنية وينتهك احكام الضمانات الأساسية للوكالة وميثاقها
الأدلة والبراهين الشفافة التي تدل على تورط غروسي سياسياً مع إسرائيل وتطويع منصبه لتلبية رغباتها في المنطقة وهذا ما أثبتته الدفعة الأولى من الوثائق السرية التي حصلت عليها وزارة الأمن الإيرانية في إطار عملية استخبارية دقيقة داخل الأراضي المحتلة والتي أظهرت بأن غروسي لم يكتفِ بالتنسيق مع ممثلي إسرائيل داخل الوكالة بل تبنى إملاءاتهم ونقل وثائق ومعلومات تتعلق بالبرنامج النووي الإيراني الى إسرائيل وحرص على توجيه تقارير الوكالة الدولية بما يخدم أهداف إسرائيل مع تجاهل انشطتها النووية غير السلمية وغير المُعلنة وهو ما جعل البرلمان الايراني يصوت على وقف التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى أن يتم ضمان سلامة وأمن أنشطة طهران النووية وملاحقة مديرها رافائيل غروسي بتهمة التجسس ومنعه وفريقه التقني من دخول ايران وقد ترددت اخبار ان تل ابيب خصصت أربعة مبان لغروسي لمراقبة أنشطة إيران وتشكيل ذرائع لحملات سياسية ضدها لا تستند إلى اية أدلة
كما تضمنت الوثائق المسربة معلومات مفصلة عن ( ميراف زافاري أوديز ) التي شغلت منصب المندوبة الرسمية لإسرائيل لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية بين عامي 2014 و2016 والتي كانت تعبر علناً عن مواقف إسرائيل خلال الاجتماعات الرسمية للوكالة ومجلس محافظيها حيث عبرت مراراً بوجود وسمع غروسي عن انتقاداتها لتعاون إيران مع الوكالة كما وجهت اتهامات إلى الإدارة السابقة للوكالة بقيادة يوكيا أمانو بوجود معلومات خطأ لديها عن البرنامج النووي الإيراني وقد عثر ضمن الوثائق على رسائل بريد إلكتروني كشفت عن مهمة خاصة كانت تضطلع بها زافاري أوديز تمثّلت في تعميق التنسيق المباشر مع غروسي بهدف توجيه التأثير على موقف الوكالة بعدم الحديث عن الأنشطة النووية غير السلمية وغير المعلنة التي تقوم بها اسرائيل وتركيز التشويش على البرنامج النووي الإيراني وبيان مدى خطورته غلى المنطق
الكثيرين يعتقدون بان لحظة تعيين غروسي مديرا عام للوكالة الدولية مثّلت نقطة تحول خطيرة وخبيثة حيث بدأ غروسي تعاونه مع الكيان منذ عام 2016 وقام بتنسيق التقارير ضد الأنشطة النووية السلمية لإيران لإثارة الأجواء ضد إيران وأن هذا التعاون الممنهج بين غروسي وإسرائيل حاء في إطار استراتيجية أوسع تهدف إلى تقويض أي اعتراف دولي بالطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني وتحويل الوكالة إلى أداة سياسية منحازة بالباطن والظاهر لإسرائيل حيث يتوجب عليها عدم التعامل المتحيز وغير وتجنب السياسات الازدواجية التي تسببت في العديد من الأزمات لأمن المنطقة والعالم وان لا تكون الوكالة الدولية للطاقة الذرية شريكً في هذه الحرب العدوانية الظالمة بناء على مزاعم اسرائيل التي هي اصلا ليست عضوا في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وفي رد الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان على انحياز الوكالة الدولية للطاقة الذرية وخضعها لتأثير القوى الغربي خاصة امريكا وعدائها لإيران قال بغضب شديد سنواصل طريقنا الخاص وسيكون لدينا تخصيب
في إطار الشعارات الاستهلاكية وسياسات التضليل أكدت الأمم المتحدة من خلال الوكالة الدولية للطاقة الذري (مراراً على ضرورة عدم مهاجمة المنشآت النووية وتحييدها عن الصراعات نظراً للعواقب الوخيمة التي قد تترتب على ذلك وتنعكس على المدنيين والبيئة عامةً على الرغم من هذه التحذيرات والقرارات، تعرضت المنشآت النووية لهجمات عسكرية وكان أبرز تلك الهجمات المدمرة وفي الحقيقة تقف تقارير الأمم المتحدة ووكالتها للطاقة الذرية خلف تبرير كل الهجمات الاسرائيلية كما أنها لا زالت حتى اليوم تختلق عبر ما تسميه رصد أنشطة غير سلمية ذريعة للصراعات الكبرى في العالم تأمل ( إذا كنت صديق لأمريكا واسرائيل فيمكنك صنع أسلحة نووية سراً من دون عقاب وإذا كنت خصمًا فسيعامل حتى الاستخدام السلمي للتكنولوجيا النووية كجريمة )
بوقاحة بارعة قدم متزعمي حقوق الإنسان والقوانين الدولية كل المبررات والتسهيلات للعدوان الإسرائيلي الأميركي غير القانوني على ايران بدلاً من إدانته والوقوف في وجهه سيما وان واشنطن وتل أبيب تهدفان من تحريك الملفات ضد إيران بوتيرة متتالية فاليوم تركزان على البرنامج النووي وغداً البرنامج الصاروخي وبعد غد برنامج الأسلحة البيولوجية والجرثومية وبعده دور ونفوذ طهران في المنطقة وبعده حقوق الإنسان في إيران ودعم الحركات الانفصالية لتقسيم البلاد ومن ثم إسقاط النظام من اجل شرعنة احتكار اسرائيل للتسلح النووي واستمرار تهديدها لأقطار وشعوب العالمين العربي والإسلامي وعلى مدى العقود الماضية لم تصدر الوكالة أي قرار بشأن البرنامج النووي الإسرائيلي وبعكس إيران ولا تزال منشآتها النووية مثل مفاعل ديمونا، خارج نطاق ضمانات الوكالة وإشرافها بالكامل رغم عدة بلاغات موثوقة (مثل إفصاحات مردخاي فعنونو عن برنامج إسرائيل للتسلح النووي في ثمانينيات القرن الماضي) لم تُجرِ الوكالة أي تحقيق رسمي مع إسرائيل
يمكننا القول هنا للسيد غروسي ان نظام حظر الانتشار النووي الذي ترعاه وكالتكم الدولية هو ( أبارتهايد نووي ) عنصري لا يحرس الأمن والسلم العالميبن حين يعاقب دولة موقّعة وتلتزم بعمليات التفتيش بصرامة أكبر من دولة غير موقّعة وتُصنّع أسلحة نووية سرًا هذه الازدواجية الصارخة في المعايير تُقوّض شرعية نظام منع الانتشار بأكمله وإن معاملة ايران بهذا الاسلوب ليست تطبيقًا محايدًا للقانون الدولي بل هي تحويل المؤسسات الدولية إلى أسلحة تخدم مصالح الغرب الاستراتيجية ومشروعه الإمبريالي واكراه مُقنّع بزي القانون
العدوان الأميركي الإسرائيل على المنشآت النوويّة في وقت التزمت فيه طهران بطاولة الحوار والمفاوضات وامتثلت لالتزاماتها النووية وقد كان انتهك فاضح للقانون الدولي في ظلّ تواطؤ الوكالة الدولية التي تعمّدت مع غروسي كشف زيف الغرب المنافق الذي يبدي حرصه على السلام والأمن الدوليين، كما كشف حقيقة المتخاذلين في العالمين العربي والإسلامي وصمتهم المريب إزاء العدوان لن يمنع إيران من امتلاك برنامج نووي سلمي كامل، ولن يجعلها ترضخ لبلطجة واشنطن وازدواجيّة معايير غروسي ووكالته الدوليّة مهما كلف الأمر ومن حق ايران انجاز برنامج نوويّ سلميّ والحصول على كامل حقوقها التي كفلتها لها قوانين الوكالة الدولية للطاقة الذرية وان تكرار العدوان الإسرائيلي الأميركي لن يستطيع القضاء على البرنامج النووي الإيراني ولا على مصانع الصواريخ ولا على إسقاط النظام مهما بلغت شراسته وقسوته وأن إيران تحتفظ بحقها الكامل في اتخاذ أي إجراءات ضرورية للدفاع عن مصالحها وشعبها وسيادتها
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]