د. هيثم علي حجازي
تأسّس المجلس القومي للتخطيط في الأردن بموجب قانون التخطيط رقم 68 لسنة 1971، وبدأت أحكامه نافذة فور نشره في الجريدة الرسمية. وقد أُنشئ المجلس كهيئة تخطيط وطنية رفيعة المستوى برئاسة رئيس الوزراء، وضمت في عضويتها عددا من كبار المسؤولين التنفيذيين، إلى جانب ممثلين عن القطاع الأكاديمي والاقتصادي، بهدف تأطير السياسات التنموية الوطنية ضمن رؤيا شاملة ومتوازنة.
وقد ركزت أهداف المجلس على: إعداد خطط تنموية متكاملة تغطي الأبعاد الاقتصادية، والاجتماعية، والبشرية، والثقافية؛ وتطوير آليات تشاركية لدمج الجهات الفاعلة في الدولة (الحكومة، القطاع الخاص، منظمات المجتمع المدني) ضمن عملية التخطيط الوطني؛ وضمان الاتساق بين الأهداف التنموية الوطنية وبرامج الدعم الدولي.
وشملت المهام الرئيسية للمجلس: إعداد وصياغة الخطط التنموية بعيدة المدى؛ واقتراح السياسات الاقتصادية والاجتماعية المناسبة للتنمية المستدامة؛ وتقييم الأثر الاقتصادي للقرارات العامة؛ وتنظيم اجتماعات دورية (ربع سنوية على الأقل) لمتابعة تنفيذ الخطط. وقد تمثلت إيجابيات وجود هذا المجلس في: توحيد مرجعية التخطيط التنموي؛ وتوسيع المشاركة المؤسسية في اتخاذ القرارات؛ وتأصيل ثقافة التخطيط بعيد المدى؛ وتعزيز الشفافية والمساءلة؛ وتدعيم البنية المؤسسية للدولة؛ وتنظيم الحصول على المساعدات الدولية وآلية إنفاقها.
تمكّن المجلس القومي للتخطيط من إنجاز العديد من الانجازات مثل: رسم خارطة طريق تنموية وطنية شاملة في العام 1973؛ ودعم وتحسين الامن الغذائي من خلال مشروع قناة الغور الشرقية، وتأمين مساكن ميسرة للطبقة المتوسطة من خلال برنامج الإسكان الوطني، والتركيز على التصنيع والطاقة (الخطة الخمسية الثانية) وتعزيز التجارة الخارجية من خلال تطوير ميناء العقبة، وتوسيع قاعدة التعليم العالي من خلال إنشاء جامعة اليرموك وتوسعة الجامعة الأردنية، وتحسين الخدمات في المناطق النائية عبر مشروع كهربة الريف، ووضع خطة لتطوير النقل العام الوطني، وغير ذلك،
في عام 1984، صدر قرار حكومي بتحويل صلاحيات المجلس إلى وزارة التخطيط لتكون خلفا قانونيا للمجلس، والتي أصبحت الجهة الرسمية المختصة بالتخطيط التنموي في الأردن، وتغير اسمها لاحقا في عام 2003 إلى وزارة التخطيط والتعاون الدولي، مما مهّد لانتقال نهج التخطيط من الإطار الاستشاري إلى الإطار التنفيذي.
ورغم أن عمر المجلس القومي للتخطيط كان قصيراً نسبياً (13 سنة) فإن بصماته كانت واضحة من حيث: ترسيخ ثقافة التخطيط في الدولة الأردنية؛ وإطلاق أول خطط تنموية منهجية. ويلاحظ أن معظم الخطط التي أعدّها المجلس كانت تمول من الموازنة العامة ومن المنح والمساعدات الخارجية. كما أن المجلس راعى في خططه توزيع المشاريع جغرافياً على مختلف المحافظات، كخطوة لتحقيق العدالة التنموية.
اليوم، وفي ظل رؤيا جلالة الملك لتحديث الأردن في مختلف المجالات، وتحقيق التنمية الشاملة المستدامة، وفي ظروف التحولات الكبرى التي يشهدها الأردن من حيث التغيرات السكانية، والطاقة، والتحولات الإقليمية يُنصح أن تعيد الدولة الأردنية إحياء المجلس القومي للتخطيط بصيغة حديثة تحت اسم "المجلس الوطني للتخطيط الاستراتيجي والتنمية المستدامة"على سبيل المثال، وليعمل بالتكامل مع وزارة التخطيط، ويكون مستقلاً عن الحكومات المتعاقبة، ويضم في عضويته مفكرين وخبراء، وممثلي المحافظات. ووجود مجلس التخطيط ووزارة التخطيط معا هو الأنموذج الأفضل، ذلك أن الوزارة ضرورية للتنفيذ والإدارة، والمجلس ضروري للتفكير والتوجيه ووضع الرؤيا المستقبلية.
وقد أظهرت التجارب العالمية في مجال التخطيط القومي الاستراتيجي ضرورة وجود وزارة تنفيذية ومجلس أو هيئة استشارية عليا ترسم السياسات. فقد أنشأت سنغافورة "مجلس التنمية الاقتصادية" ليكون هيئة مستقلة مالياً وإدارياً، واستطاعت خلق تحول اقتصادي شامل في غضون عقود، بفضل تخطيط دقيق واستباقي، مما ساعد سنغافورة على التحول من اقتصاد تقليدي إلى اقتصاد المعرفة. وفي فرنسا أعيد إحياء المفوضية العامة للتخطيط تحت اسم France Strategie لقناعة الدولة الفرنسية بضرورة ان تتكيف الخطط الوطنية مع التحولات الاقتصادية، من خلال وجود كيان فكري استراتيجي يعمل على توجيه الدولة.
وفي كوريا الجنوبية تم إنشاء اللجنة الوطنية للتخطيط الاستراتيجي مهمتها رسم السياسات طويلة الأجل، والتخطيط للتحول الصناعي والتكنولوجي، حيث تولت هذه الهيئة قيادة خطة "نهوض كوريا" من دولة زراعية فقيرة إلى دولة صناعية متقدمة في أقل من 40 سنة.
وأثبتت هذه التجربة أهمية وجود لجنة تخطيط رفيعة المستوى ووزارة تنفيذية فاعلة. وفي ماليزيا تم إنشاء وحدة التخطيط الاقتصادي، وتمثل دورها في إعداد رؤيا "ماليزيا 2020" وكانت النتيجة نقل ماليزيا الى مصاف الدول المتقدمة. وفي الوطن العربي أنشأت جمهورية مصر العربية "المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية المستدامة". إن وجود مجلس أعلى للتخطيط، وبغض النظر عن الاسم، ووجود وزارة التخطيط أمران لا يتناقضان بل يكملان بعضهما بعضا.
*أمين عام رئاسة الوزراء الأسبق / رئيس ديوان الخدمة المدنية الأسبق
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |