عمي كايد ..


رم -
المهندس عادل بصبوص

أدركت في مرحلة مبكرة من طفولتي أن لا عم لي كما الكثيرين من أقراني ... فلا أبناء عم لي ولا بنات عم كذلك .... فقد توفي شقيق والدي الوحيد "حسن" قبل أن أبصر النور بسنة واحدة أو اثنتين ....

كان عمي حسن يكبر والدي بحوالي سبعة عشر عاماً ... لم يكن مجرد أخ له ... كان الرفيق والصديق والأب كذلك ... فقد توفي جدي ولم يكن والدي قد تجاوز السنة الثانية من عمره ... فعاش في كنف أخيه حسن وكان يحبه ويحترمه ويقدره كما لو كان والده وأكثر ... وكان يخشاه ويتجنب إغضابه أو مخالفة أمره ... وكان عمي حسن يحب والدي كثيراً كأبنه تماماً وقد حرمه الله من الذرية فلا أبناء له ولا بنات ... ولكنه كان يقسو عليه ولا يتهاون معه أبداً في جانب واحد فقط إلا وهو التدخين .... فقد أدمن والدي التدخين في مطلع شبابه ... وكان عمي دائم المراقبة له فإن ضبطه يدخن يصب عليه جام غضبه ويعاقبه بلا شفقة أو رحمة ....

وقد حدث في إحدى السنوات أن قامت حكومة الانتداب البريطاني بمنع تداول واستعمال التبغ "الهيشي" وهو النوع الذي كان والدي مدمناً عليه ... خطوة أزعجت والدي كثيراً وكافة مدخني ذلك الصنف لكنها أبهجت وأسرت عمي كثيراً الذي رأى فيها الفرصة السانحة وربما الوحيدة لإجبار والدي على الإقلاع عن التدخين ...

أصبح دخان "الهيشي" سلعة نادرة وغالية أيضاً يحصل المدخنون عليها بالسر خشية اكتشاف أمرهم من السلطات البريطانية ...
ضاقت الدنيا في عيني والدي الذي كان يحارب للحصول على التبغ على جبهتين ... أخوه حسن الذي لا يتهاون في هذا الموضوع و"البوليس" البريطاني ...

وفي ذات صباح كان والدي يحس بما يشبه الدوار وقد عَنَّتْ على باله "السيكارة" ولا "تتن" لديه - التتن هو تبغ الهيشي-، وإذا بصوت أخيه حسن يطرق سمعه منادياً "اسماعين ... اسماعين" ... فهب من فوره ملبياً وهو يقول "هظني يا أخوي شو في ..." ...
تعال تَشوف ... ثم إضاف مع اقتراب والدي منه ... شايفك مش على بعظك اليوم شوفي ....
لا يا أخوي مفيش إشي ...
قلي شو مالك ... رد عمي حسن وقد خمن ما يعاني منه أخوه الصغير ....
إيش ليكون جاي عبالك التتن... سأل عمي ....
لا لا .. لا تتن ولا غيره ... رد والدي مرتبكاً
مش صحيح ... أنت غميان على سيكارة قول الصحيح .... قال عمي مبتسماً ...

سكت والدي وأطرق عينيه في الأرض وقد فاجأته ابتسامة عمي ... وقد كان يتوقع خلاف ذلك ...
تعال الحقني يا "هامل" ... قال عمي وهو يدخل الدار ... ثم تناول كيساً أسوداً من إحدى الزوايا ... ثم دفعه إلى والدي الذي التقطه مندهشاً ....

تأمل والدي الكيس الأسود الذي أصبح بين يديه ... هَمَّ بفتحه ثم أحجم عن ذلك ... وحدق في وجه أخيه ولسان حاله يقول ما هذا ... لاحظ عمي تردد أخيه الصغير وارتباكه فبادر قائلاً وهو يبتسم هذا كيلو تتن جبتلك إياه ... امبارح طَوَّلنا في القعدة في الجامع أنا ورفايقي اللي إنت عارفهم ... بعد نص الليل أجو جماعة ببيعوا تتن ... قام الكل هجم عليهم ... الشاطر اللي بدو يوخذ أكثر ... اطَّلَّعِتْ عليهم وقلت في نفسي يعني هُمِّه أحسن منك في إيش يوخذوا دخان وإنت لأ ... قمت هجمت مع اللي هجموا وحَصَّلتلك كيلو تتن ....

في البداية ومن هول المفاجأة لم يستوعب والدي ما سمعه للتو .... مرت ثواني معدودة وهو يحدق في وجه أخيه غير مصدق لما حدث ... ثم فجأة انهمرت دموعه وأجهش في البكاء وأقبل على أخيه فعانقه وقبل يديه مرات ومرات ... واستمرت دموعه في الانهمار دون توقف ...

لم تنهمر دموع والدي فرحاً بالحصول على التتن "التبغ" كما ظن عمي ... بل كانت ردة فعل تلقائية من والدي لما لمسه من محبة وحنو وحرص واهتمام من طرف أخيه الأكبر الذي خالف رغباته وقناعاته ووافق على ما كان يعارضه دوماً إكراماً له ...

حصل والدي منذ تلك اللحظة على الترخيص اللازم للاستمرار كمدخن رسمي في وضح النهار وتحت ضوء الشمس ... رخصة استغلها بشكل مستمر قرابة ستين عاماً قبل ان يقلع عن التدخين إثر إصابته بجلطة دماغية قبل وفاته بسنوات ثلاث ... رخصة لم يورثها لأي من أبنائه الستة وبنته الوحيدة ... فيما استغلها أيما استغلال معظم الأحفاد ....

ظل والدي ملتصقاً بأخيه كظله فهو العزوة والسند والوالد والأخ والصديق ... لجآ سوياً عام 1948 من بلدتهم الدوايمة إلى قرية دورا المجاورة ... وهناك عملا أجيرين عند أحد كبار ملاكي القرية ...

وذات يوم صيفي كانا كلاهما يعملان بهمة ونشاط ... وعندما انتصف النهار واشتد الحر شعر عمي بألم في صدره لم يطق له تحملاً ... فما كان من والدي إلا أن طلب منه أن يرجع إلى البيت لأخذ قسط من الراحة ... ليرافقه في طرق العودة عبد الحميد شاكر الصويتي صديق والدي وابن من كانا يعملان لديه ... سار الاثنان تحت أشعة الشمس الحارقة وفي منتصف الطريق أخبر عمي رفيقه انه يشعر بالعطش الشديد ... فطلب منه رفيقه ان يجلس تحت شجرة قريبة ريثما يبحث له عن ماء يروي به ظمأه ... ولما عاد بالماء وجده قد فارق الحياة ....

كان والدي يحب أخاه الوحيد حباً لا حدود له ... وهي مشاعر انتقلت لي شخصياً دون أن أراه أو أعرفه ... أحببت خصاله الجميلة واعجبت بالصورة التي نقلت لي عنه ... شديد البياض لدرجة الإحمرار متوسط القامة ... كنت اتخيله بلباسه العربي التراثي التقليدي يعتمر عمامة على رأسه ...

كنت حريصاً عندما أتيحت لي مؤخراً فرصة الاطلاع على وثائق النفوس العثمانية الخاصة ببلدتنا الدوايمه أن أبحث عن اسم عمي حسن حيث وجدته ضمن هذه الوثائق والتي بينت أنه من مواليد عام 1318 هجري حوالي 1900 ميلادي ... وفي السطر الذي تلا اسمه رأيت المفاجأة الكبرى التي لم اتوقعها أبداً ... فقد بينت الوثائق أن لي عماً ثانياً اسمه "كايد" وهو أصغر من عمي حسن بأقل من سنتين اثنتين ... الغريب أن والدي لم يذكر في أي يوم من الأيام أن له أخاً ثانياً اسمه "كايد" ...

لا بد أن كايد الذي ولد قبل والدي بحوالي خمسة عشر عاماً قد توفي صغيراً في سني حياته الأولى ... فمات مبكراً ومات ذِكْرُه معه ...

شعور غريب انتابني وقد عرفت ذلك جعلني أتساءل ترى كيف مات عمي وكم كان عمره عندما مات ... لا بد أن رحيله قد خلف الحزن والحسرة في قلوب والديه .... ثم اعترتني مشاعر حزينة كمن علم للتو بفقد غالٍ أو عزيز ...

رحمة الله عليك يا والدي ويا عمي حسن ... فقد كان لكما أخ آخر لو قدر له أن يعيش لربما كان له شأن في هذه الحياة .... كايد الذي ولد في الأرض المباركة ودفن فيها ...اختاره الله طيراً من طيور الجنة ... وجنبه امتحانات وهموم هذه الدنيا الفانية التي لا تساوي عند الله جناح بعوضة .... هذه الدنيا الظالمة التي لا تقيم عدلاً ولا تنصر مظلوماً ... ولا تبالي وهي ترى قوافل الأطفال تقتل وتسحق بالقنابل الثقيلة صبح مساء في مأساة مستمرة منذ أكثر من عشرين شهراً ...

عمي كايد هنيئاً لك ......



عدد المشاهدات : (3797)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :