نحو استراتيجية فاعلة لتطوير القطاع العام


رم - د. هيثم علي حجازي


يُعد القطاع العام في الأردن حجر الأساس في بناء الدولة الحديثة، إذ يتحمل مسؤولية تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، وتنفيذ السياسات العامة، وتحقيق أهداف التنمية الشاملة. ومع تزايد التحديات التي تواجه المملكة، من ضغوط اقتصادية، وتغيرات اجتماعية، وتحديات إقليمية، ورغم البدء بتنفيذ برنامج تحديث القطاع العام، فإن تطوير أداء القطاع العام لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تبني استراتيجية وطنية واضحة وشاملة. إن غياب الاستراتيجية أو عدم وضوحها يؤدي إلى فوضى إدارية، وهدر للموارد، وتراجع في كفاءة الخدمات، وهو ما ينعكس سلبا على علاقة المواطن بالدولة وثقته بمؤسساتها.

شهد الأردن عدة مبادرات وبرامج لإصلاح وتطوير القطاع العام خلال العقود الماضية، أبرزها:

برنامج الإصلاح الإداري (1995): الذي هدف الى تحسين الكفاءة الإدارية، وتبسيط الإجراءات. لكن غياب الإرادة ونقص الموارد حال دون تحقيق الأثر المطلوب.

البرنامج التنفيذي لتحديث القطاع العام (2002 – 2006) وقد هدف إلى إعادة هيكلة الوزارات، وتطبيق الحكومة الإلكترونية، وتطوير الموارد البشرية. لكن ضعف التنسيق بين الجهات، والمقاومة الداخلية للتغيير، أضعفت نتائجه.

الخطة الوطنية للتنمية الإدارية (2007 – 2011) حيث ركزت على تطوير القدرات المؤسسية، وتحسين الأداء، لكنها واجهت تحديات تتعلق بالتمويل والتغيير المتكرر في القيادات الإدارية.

مشروع الحكومة الإلكترونية: رغم تحقيق بعض النجاحات، إلا أنه لم يحقق التكامل المطلوب بين المؤسسات، ويواجه تحديات فنية وثقافية.

رؤيا التحديث الإداري (2022): وهي رؤيا طموحة إلا أن نجاحها يعتمد على التطبيق الفعلي، والتزام القيادات، وعدم حصرها في النواحي الشكلية فقط.

من خلال ما سبق، يمكن تحديد أسباب فشل تلك المبادرات بما يلي:

1.عدم الاستمرارية والتغيير المتكرر للقيادات.
2.غياب المتابعة والتقييم الفعلي للأداء.
3.ضعف الإدارة فيما يتعلق بإحداث التغيير.
4.المقاومة البيروقراطية من داخل الجهاز الحكومي نفسه.
5.ضعف مشاركة المجتمع المدني والقطاع الخاص في رسم السياسات.
6.غياب الشفافية في اختيار الكفاءات وتعيين القيادات.

التحديات التي تواجه القطاع العام في الأردن

رغم الجهود المبذولة لتحسين أداء القطاع العام، فإنه ما يزال يواجه تحديات هيكلية ووظيفية تعيق فاعليته. ومن أبرز هذه التحديات:

1.البيروقراطية المفرطة، إذ ما تزال تتسم الإجراءات الحكومية بالتعقيد والروتين، ما يؤدي إلى بطء الإنجاز وضعف الاستجابة لاحتياجات المواطنين.

2.ضعف التنسيق بين المؤسسات، فما تزال العديد من المؤسسات تفتقر إلى آليات تنسيق فاعلة، مما يؤدي إلى ازدواجية في المهام، وتعارض في السياسات.

3.الفساد والمحسوبية، إذ ما يزال القطاع العام يعاني من قضايا فساد إداري ومالي، وغياب النزاهة في التعيينات والترقيات، مما يقوض ثقة المواطن ويحد من فاعلية الإدارة.

4.الجمود في الموارد البشرية، إذ ما تزال الكوادر البشرية تعاني من نقص في التدريب، وضعف في نظام الحوافز والمساءلة، مما ينعكس على الأداء العام.

5.محدودية الاستفادة من التكنولوجيا، فعلى الرغم من التقدم النسبي في التحول الرقمي، إلا أن استخدام التكنولوجيا في الإدارة الحكومية ما يزال محدودا وغير متكامل.

للخروج من الوضع الحالي إلى وضع أكثر تفضيلا، لا بد من وجود استراتيجية خاصة بالقطاع العام. ووجود هذه الاستراتيجية لا يعني تعارضها مع خطة تحديث القطاع العام جاري تنفيذها، بل يمكنهما أن يكونا مكملين لبعضهما بعضا.

استراتيجية القطاع العام تشير إلى الإطار العام الذي يحدد الرؤيا المستقبلية لهذا القطاع، والأهداف الكبرى التي يسعى الى تحقيقها، والوسائل والسياسات اللازمة لذلك. وتشمل هذه الاستراتيجية تحديد أولويات العمل، وتنظيم الهياكل، وتطوير الموارد البشرية، وتعزيز الحوكمة، وضمان استدامة الخدمات. كما تتضمن منهجيات لتقييم الأداء، ووضع مؤشرات واضحة للنجاح، ومرونة كافية للتكيف مع المستجدات. وبخلاف الخطط التشغيلية قصيرة المدى، فإن الاستراتيجية ترسم توجها بعيد المدى يراعي التطورات المستقبلية، وتغيُّر احتياجات المواطنين، والتحولات الاقتصادية والتكنولوجية.

إن الحديث عن ضرورة وجود استراتيجية لتطوير القطاع العام لا يأتي من باب الترف والتزيُّد النظري، بل ينبع من أهمية
هذا القطاع في إدارة شؤون الدولة، وتحقيق التنمية، وضمان العدالة الاجتماعية. ومن أبرز دواعي وجود هذه الاستراتيجية:

1.تحسين الكفاءة وجودة الخدمات عبر تحديد أولويات واضحة، وقياس الأداء، وتعزيز الرقابة والمساءلة.

2.ترشيد الإنفاق وتوزيع الموارد بعدالة، إذ أن التخطيط الاستراتيجي يساهم في تقليل الهدر وتوجيه الموارد للقطاعات ذات الأولوية.

3.تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال تحديد مسؤوليات واضحة، وآليات لقياس الإنجاز وربط الأداء بالمكافآت.

4.رفع مستوى رضا المواطنين من خلال تحسين الخدمات، وزيادة سرعة الاستجابة، وتقليل البيروقراطية.
5.الاستعداد للمستقبل ومواكبة التحولات سواء كانت اقتصادية أو تكنولوجية أو ديموغرافية.

6.بناء ثقافة مؤسسية قائمة على الابتكار والنتائج تدفع نحو التغيير الإيجابي المستدام.

ملامح الاستراتيجية المطلوبة للقطاع العام الأردني

من أجل أن تكون الاستراتيجية الجديدة فاعلة وذات أثر، يجب أن تتضمن المحاور التالية:

1.رؤيا مستقبلية واضحة تنطلق من احتياجات المواطن وتلبي طموحاته.
2.إصلاح هيكلي شامل يشمل دمج أو إلغاء مؤسسات متداخلة، وتوحيد المرجعيات التنظيمية.
3.تحول رقمي فعلي بحيث تصبح الخدمات الإلكترونية متاحة وشاملة وسهلة الاستخدام.
4.نظام فاعل للموارد البشرية يعتمد على الكفاءة لا الولاء، ويوفر التدريب المستمر، ونظام مكافآت عادل.
5.تعزيز ثقافة المساءلة والشفافية عبر أنظمة رقابة داخلية وخارجية مستقلة.
6.مأسسة التخطيط والتقييم وجعل التخطيط الاستراتيجي جزءا من ثقافة العمل اليومي، وليس نشاطا موسميا.
7.إشراك المواطنين والقطاع الخاص والمجتمع المدني: في صناعة القرار وتقييم الأداء.

وبهذا الصدد، يمكن للأردن الاستفادة من عدد من التجارب الدولية الناجحة مثل:

سنغافورة: التي اعتمدت على الحوكمة الفاعلة، والشفافية، وبناء قدرات الموظف الحكومي.
فنلندا: التي دمجت التكنولوجيا في العمل الحكومي مع ثقافة مرنة قائمة على الخدمة.
الإمارات العربية المتحدة: التي طورت أنظمة حكومية رقمية وخدمات قائمة على رضا المتعامل.
وما يميز هذه التجارب هو توافر الرؤيا، والقيادة السياسية الفاعلة، وربط الأداء بالمحاسبة.

إن إصلاح القطاع العام في الأردن يتطلب إرادة سياسية حقيقية، ورؤيا استراتيجية متكاملة، وتعاونا بين كافة أطياف المجتمع، إذ لا يكفي إصدار التعليمات والخطط إذا لم تُترجم إلى إجراءات عملية تُطبق بجدية، وتُتابع بصرامة، وتُقيّم بشفافية. فبناء قطاع عام حديث، فاعل، ومسؤول هو المدخل الحقيقي لتدعيم أركان دولة القانون والمؤسسات، وتحقيق التنمية المستدامة، واستعادة ثقة المواطن الأردني بمؤسساته.




عدد المشاهدات : (5481)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :