كيف يمكن للأردن صياغة الاستقرار وسط عاصفة الإقليم؟


رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي

بين نيران غزة وأزمات الشمال السوري، يقف الأردن على خيط دقيق من التوازن، يناور بين ضرورات الأمن وضغوط الاقتصاد ومقتضيات الدبلوماسية، وسط بيئة إقليمية تفتقر إلى الحد الأدنى من الاستقرار واليقين ، يُقدّم نفسه كواحة استقرار في صحراءٍ ملتهبة، مستنداً إلى إرثٍ طويل من المرونة الجيوسياسية ومهارة عالية في إدارة التناقضات، في محيطٍ لا يرحم الضعفاء ولا يمنح المحايدين وقتًا للراحة.

من الجهة الشرقية، تتصاعد التهديدات الأمنية بفعل عمليات تهريب الكبتاغون والأسلحة عبر بادية السويداء، في وقتٍ تنهار فيه السيطرة المركزية في الجنوب السوري.

ما كان يُنظر إليه في السابق على أنه تسلل جنائي بات اليوم يُقرأ كمؤشر استراتيجي على تآكل الحدود الإقليمية ,القوات المسلحة الأردنية اعتمدت نهجاً جديداً أكثر صرامة، يقوم على الضربات الاستباقية ومطاردة الشبكات المهرّبة داخل العمق السوري، وأثمر عن إحباط إدخال ملايين الحبوب المخدرة.

لكن السؤال الأهم ليس فقط عن عدد الضبطيات، بل عن ديمومة الردع في ظل هشاشة الطوق الإقليمي، واحتمالات تداخل التهريب مع قوى مسلحة غير نظامية.

على جبهة الداخل، تبرز الأزمة الاقتصادية كأكثر التحديات استعصاءً فالبطالة تتجاوز 21%، وسدس السكان يعيشون تحت خط الفقر، فيما تجاوز الدين العام 90% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب بيانات رسمية لعام 2024 ، وفيما تحاول الحكومة السيطرة على هذه المؤشرات عبر برامج إصلاح اقتصادي بالشراكة مع صندوق النقد الدولي، لا تزال آثار الجائحة، وتباطؤ النمو، وارتفاع كُلفة المعيشة تُثقِل كاهل الطبقة المتوسطة المتأكلة، وتُربك محاولات بناء الثقة ، كما لا يمكن إغفال أثر اللجوء المستمر، خاصة السوري، على الموارد والبنية التحتية، ما فاقم الضغط على سوق العمل والخدمات العامة، وزاد من وطأة التحديات الاقتصادية والمعيشية.

في المقابل، تراهن الدولة على قطاعات واعدة، وعلى رأسها الطاقة المتجددة جنوب المملكة يشهد تطوراً ملحوظاً في مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ضمن خطة تستهدف رفع مساهمتهما إلى 50% من إنتاج الكهرباء بحلول عام 2033 ، كما أن المرحلة الثانية من مشروع الربط الكهربائي مع العراق، المتوقع تشغيلها الشهر المقبل، قد تفتح الباب لتوسيع التعاون الإقليمي في ملف الطاقة–الأمن، وربما بناء محور من المصالح الاقتصادية الجديدة مع الجوار الشرقي.

الملف الفلسطيني، تاريخيًا، لا يشكّل فقط قضية خارجية بالنسبة للأردن، بل هو جزء من توازناته الداخلية.
أيّ تصعيد في القدس أو تهديد للمقدسات، وأي محاولة لفرض واقع جديد في غزة من خلال التهجير، ينعكس مباشرة على الشارع الأردني، ويفتح الباب لتوتر اجتماعي–سياسي قد يضغط على صانعي القرار.

والوصاية الهاشمية على القدس في هذا السياق ليست فقط ورقة رمزية، بل أداة دبلوماسية ودينية وسياسية، تُعيد من خلالها عمّان التأكيد على مركزية القضية، وضرورة حلّ الدولتين كصمام أمان لاستقرار الإقليم، ولحماية التوازن الاجتماعي داخل المملكة.

وبعيدًا عن ضجيج السلاح والسياسة، يقف الأردن أيضًا أمام تحديات مستدامة كأزمة المياه والتغير المناخي، في ظل كونه ثاني أفقر دولة مائيًا في العالم ، هذه العوامل البيئية تضغط بهدوء لكنها لا تقل تأثيرًا عن أزمات الإقليم، وتستدعي سياسات طويلة الأمد لا تقل أهمية عن القرارات الأمنية.

رغم هذه التحديات المتداخلة، ما يزال الأردن يحتفظ بدرجة من التماسك المجتمعي فالقبول العام بمؤسسات الدولة، خصوصًا الأمنية، يمنح النظام هامشاً من المرونة في إدارة الأزمات ، لكن ذلك لا ينفي أن فجوة الثقة بين الدولة والمجتمع بحاجة إلى إعادة ترميم حقيقية، خصوصاً في أوساط الشباب، الذين يواجهون أعلى معدلات البطالة في الإقليم، وشعورًا متزايدًا بالإقصاء الاقتصادي.

هناك حاجة اليوم لرؤية أكثر شمولية، لا تعتمد فقط على التعامل مع الضغوط الآنية، بل تؤسس لنموذج تنموي جديد يربط التعليم بسوق العمل، ويُعيد الاعتبار للعدالة الاجتماعية كركيزة للاستقرار.

اما البعد الدبلوماسي في الوقت الذي تتبدّل فيه موازين القوى بين طهران وتل أبيب، وبين واشنطن وموسكو، تواصل عمّان السير على حد السكين دبلوماسيًا ، فهي تسعى للبقاء على مسافة واحدة من الجميع، دون أن تتورط في محاور، لكنها تدرك أن هذه "الحيادية الإيجابية" أصبحت أكثر صعوبة في بيئة لا تحتمل التردد.

في المحصّلة، يواجه الأردن أربع موجات متلاطمة في آنٍ واحد ، شرقٌ مشتعل تتسرّب منه الفوضى والمخدرات،اقتصاد مثقل بالعجز والبطالة،ملف فلسطيني يُهدّد بالتفجّر، وإقليم مضطرب يعيد تشكيل خرائطه.
ورغم التحديات المتعددة، تراهن عمّان على مهارة "صانع الفسيفساء" التي تعبّر عن قدرتها الفريدة على التوازن بين المتناقضات، حيث تُرصّع فراغات الجغرافيا بشراكات أمنية محكمة، تستثمر في الطاقات الخضراء المتجددة، وتلعب أدوارًا إنسانية فاعلة في دعم اللاجئين والمجتمعات المحلية. هذه الجهود لا تقتصر على استدامة الداخل، بل تهدف إلى صياغة لوحة استقرار دقيق تحفظ للمملكة: موقعها كمرتكز تهدئة فريد في منطقة مضطربة اعتادت على الانفجار والتقلبات، لتظل واحة أمان وسط العواصف.

فهل ستكفي هذه الخبرة لعبور واحدة من أكثر المراحل حساسية منذ عقود؟

أم أن التحوّل القادم سيتطلب أدوات جديدة، وجرأة في إعادة تعريف الدور الأردني إقليميًا وداخليًا؟




عدد المشاهدات : (4839)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :