رم - كتب – عبدالهادي راجي المجالي
..حين بنيت قناة الجزيرة في قطر ، وبغض النظر عن نظريات النشوء والتخوين واتهام إسرائيل وما إلى غير ذلك ، إلا أنها بنيت كي تترجم السياسة العليا للدولة وتدافع عنها ، وقد نجحت هذه القناة لدرجة أنها أصبحت قرارا بحد ذاته ، لكن الجزيرة لم تخرج يوما عن تعليمات وخطاب وزارة الخارجية القطرية ...
في الأردن حاولنا أن نقلد النموذج عبر بناء قناة المملكة ، قمنا بتصميمها على نفس الشاكلة الإخبارية ، لم ننتج شيئا جديدا فيها غير الألوان ..إلا أن المنهج والطريقة وشكل الإدارة والإستقلالية يشبه الجزيرة تماما ...غير أننا بدلا من نستورد نهج الجزيرة في نقل توجهات وسياسات الدولة ، صارت المملكة هي من تصنع السياسات في الدولة ، أي أن المملكة تحولت لدولة ، ونحن المواطنون صرنا مجرد محطة ...
..حسنا ، أدرك أن المقدمة قاسية جدا ، ولكن لماذا أقول هذا الكلام :
لأن قراءة مشهد الحرب الأخيرة بين إيران وإسرائيل يطرح عدة تساؤلات ، ليس للوصول إلى إجابات مريبة ..بل لأجل عرض الحقيقة كاملة .
والسؤال ما هي مصلحتنا كدولة أن ننتج تحشيدا غريبا ومريبا ضد إيران ، مع أنني تابعت الإعلام الإيراني ، الذي انشغل بنقل الحرب ولم يتحدث ولو بالتلميح عن أي دولة عربية ، بل اكتفى بنقل مساحات واسعة من زيارة وزير الخارجية السعودي لطهران أثناء اندلاع الأزمة ، وندرك في داخلنا أن علاقات الدول تبنى على المصالح ..فليس هناك من عدو دائم وليس هناك من صديق دائم أيضا .
لم أكن يوما مع إيران ، لأن مشروعها الطائفي ، كان يستهدف الجميع في المنطقة بلا استثناء ...ولكن يهمنا الأردن ولنتحدث عن الأردن .
حين أقول أن المشهد اختطف أعني ذلك ، لقد تعلمنا في طفولتنا أن المباديء تعادل الدم ، لهذا كانت الكرك هي العاصمة السياسية لكثرة الأحزاب فيها ..كنت أراقب سلوك (البعثيين) ، والبعثي سجن أو دخل الدولة أو طرد من الدولة يبقى محافظا على المباديء ووفيا لها ، كنا نراقب (الشيوعيين) ونقرأ كتاب يعقوب زيادين (البدايات) ونستغرب كيف هي المباديء لديهم مثل الفولاذ لاتنصهر ولا تتغير ...كنا نراقب الحركة السلفية ، وفكرتها حول حرمة الخروج عن الحاكم ...لكن الغريب في الأردن أن (الإسلاميين) أنتجوا داخل أفرادهم انقلابات غريبة عجيبة ، فالذين اختطفوا المشهد في الحرب الأخيرة وتفننوا بشتم إيران ..وتفننوا بالحضور على شاشات قناة المملكة ، هم ذاتهم الذين صفقوا لحسن نصر الله عام (2000) وذهبوا لبوابة فاطمة ، كي يرجموا إسرائيل ، هم ذاتهم الذين كانوا يكبرون (ل حم ا س) في عمليات التفجير داخل تل أبيب منتصف التسعينيات ، ومازلت أحتفظ بمقالاتهم التي نشرتها السبيل...والمشكلة أن هذه الفئة اختطفت المشهد وصارت بحكم العطايا والإمتيازات وطنية ...
ذات يوم كنت جالسا في حضرة الراحل سعد خير – رحمه الله – كنا نتحدث يومها عن الأحزاب ، وأخبرته عن قصيدة كنا نرددها في طفولتنا للشاعر مظفر النواب ، وهي تتعلق بقيام حزب البعث بتخيير الشيوعي وقتها ، بين البراءة أو السجن والتصفية ، وكانت البراءة تعني أن يقوم المعتقل بكتابة بيان في صحيفة الجمهورية يتبرأ فيه من معتقده والمبدأ ويعلن إخلاصه لحزب البعث والدولة .. ولكن في العراق كان (الشيوعيون) يرفضون ذلك ، وقد كتب مظفرالنواب قصيدة اسمها البراءة قال فيها مخاطبا أفراد الحزب الشيوعي وعلى لسان أم واحد منهم : ( تدري يا ابني ترى البراءة اتظل مدى الأيام عفنة ...بكل براءة كل شهيد من الشعب ينعاد دفنه) ..ذكرت للباشا يومها أيضا قصة سلام عادل وادم حاتم ، وهم من عتاة (الشيوعيين) العرب والذين أعدموا عبر غرز قضبان الحديد في عيونهم ، ورفضوا أن يكتبوا البراءة ...حين أنهيت كان رد الباشا – رحمه الله – في إطار تحليل سيكولوجي ربما لا أجرؤ على نشره ..ولكنه ختم الأمر بكلمة : (عارفينهم وحياتك) ..
أما الفئة الثانية والتي استبسلت في اختطاف المشهد هي اليسار (الطحلبي) الذي رفع أتباعه شعار الجمهورية الأردنية في بيروت ، ولكنهم حين عادوا رموا بندقية الثورة ورموا الحلم الفلسطيني وبعضهم بحث عن مناصب وعضويات شركات إدارة ، وبعضهم ارتمى في أحضان السفارات حد التسول ، وإذا رجعت لمراكز (الأن جي أوز) ستجد حجم التمويل الخاص بهم .
هاتان الفئتان استباحتا الإعلام ، وقاموا بضخ شحن عاطفي عدائي مريب ضد إيران ..والأخطر من ذلك أنهم وجدوا حواضن في الدولة تسمح لهم ، ووجدوا منافذا لفرض وجهة نظرهم وطرائق تفكيرهم على سياسات الدولة .
ولا نعرف سر تمسك مؤسسات الدولة بهم ، وهي تدرك أن معظم مؤسسات العالم السياسية والأمنية لا تثق بمن ينقلب على المباديء ...
إيران هزمت أم انتصرت هذا لايهمنا ، يهمنا الأردن بالدرجة الأولى ...يهمنا أن يبقى رئيس الوزراء هو صاحب السلطة والولاية الدستورية ، يهمنا أن تقرأ الحكومات المشهد ، ويهمنا أن ندرك أن للدولة مصانع قرار ، وللدولة عقول قادرة على إنتاج صورة ومشهد ..لكن أن ترتهن الدولة لمحطة فضائية ، بحيث يصبح كل من يظهر عليها حاملا لصك البراءة ، ومن لايظهر عليها هو مشتبه فيه ووطنيته مشكوك فيها أيضا .
لا أعرف إذا كان يدري رئيس الوزراء أم لا ، فأنا معني بأن يعرف : أن أي وزير يريد أن يحافظ على بقائه في الحكومة دون خروجه من التعديل ، فعليك أن تعود إلى أرشيف قناة المملكة حتى تعرف كم ظهر عليها وكم غاب عنها ، وإذا ظهر كثيرا فهو من المؤلفة قلوبهم وإن لم يظهر فهو حتما سيخرج في التعديل القادم .
الأردن لم يكن كذلك ، الأردن كان وطنا لا مكان فيه لمن يبيعون المباديء ...الأردن كان وطنا ، تحميه القلوب ..ويحميه زهد الغيارى من الرجال ، الأردن كانت مراجل الوعي فيه لا تخبو النار تحتها ، لم يكن ينتج مؤسسات زبائنية ...لم ينتج إعلاما فوق القانون والسلطة ، الأردن كان الحلم وكان القصيدة وكان المنعطف والمرتجى والنهر ....هل هذا هو الأردن الذي صار مقسما بين إسلامي تائب ويساري مرتد ؟ هل هذا هو الأردن الذي تصنع في مجالس إدارات الإعلام القرار وترسلها للحكومات كي تطبقه ؟
لست من (المؤلفة قلوبهم)، كنت دوما على طول العمر من حزب (المغضوب عليهم) ...ولكنها الكرك التي تعلمنا فيها السياسة والجنون والحب وتعلمنا المباديء ...وتعلمنا فيها أيضا أن نطلق غضبة لأجل الدولة .
حمى الله الأردن
وعاش الملك