رم - أمين القضاة
لم تفارق هذه العبارة ذاكرتي منذ سمعتها أول مرة من رفيق السفر الغريب، كنت قد أسندت رأسي المكورة على راحة يدي محاولًا إيجاد فسحة تتيح لي النوم، كانت الطائرة قد استقرت في مسارها في السماء، ومثل سابقاتها من رحلات كانت هذه الرحلة أيضا إيمانية بامتياز، بكثير من الأدعية والابتهالات، وبرغم تظاهري الزائف بالشجاعة والتماسك، إلا أنّ اهتزازات الطائرة كانت قادرة أن تخرجني من كهف النّوم الذي كدتُ أن أدخله.
كان رفيق السفر الغريب الجالس جواري رجلًا أنيقا تفوح منه رائحة عطر ندية،وقد ظهرت عليه آثار نعمة لا تبدو أنها محدثة، كانت الأناقة تبدو عليه وكأنها شيء وراثي، لاحقًا أدركت أنه يكبرني بسنوات، فانسياب الخطوط أسفل عينيه باتجاه أقصى الحاجب المقوص يشي بعمر يهرول مسرعًا نحو الخمسين.
بادرني بالتعرف إلى اسمي ومهنتي، وعدد سنوات منفاي الطوعي، ثم استرسل متسائلًا عن أسماء بناتي، لا أدري لماذا يتوقف الناس عادة عند سماع أن لك من البنات ثلاثة أو أكثر..... وكأنهم يعيشون في زمن آخر بعيد يجعلهم يتوقفون عند معرفة عدد البنات قبل مجيء الصبي......
فجأة بدأت أتخيل أن ملامحه تتبدل، من رجل تظهر عليه آثار نعمة إلى ملامح جدي حسين الفلاح الذي لوحت جبهته أشعة الشمس، ورسمت الحياة عروق يده في مسارات متعرجة تحكي عن أيام عملٍ شاقة في زراعة القمح، وحراثة الأرض، ورعي الأغنام، بل أنني شعرت أن رفيق السفر الغريب ينزع ملابسه ويستبدلها بثوب جدي البدوي ثم يضع شماغه وعقاله. لكن رائحة العطر الفواحة جعلتني أعود مرة أخرى من رحلة التخيل غير المعقولة والمقارنة غير المكافئة.
ختم رفيق السفر الغريب كلامه مواسيًا بعد سماع اسم ابنتي الثالثة مريم بعبارة "كل المرايم حنونات"....
انكفأت مرة ثانية على جنبي وأنا أفكر في تلك اللطيفة الضحوكة أم لسان صغيرتي مريم، كانت فكرة تذكر سبب تسمتيها كفيلة أن تدخلني في كهف أحلام اليقظة غير آبهٍ هذه المرة باهتزازات الطائرة، تذكرت أني أسميتها وفاء لذكرى جدة أمي الحاحة مريم العطيات، تلك المسنة في بداية الثمانينات التي كانت تعرج أدراج وادي الأكراد صعودًا، وتمشي بين الزقاق حتى تصل إلى بيتنا في جبل الخندق لتحل ضيفة عند أمي مدة ثلاث أيام. كانت تأتي محملة بالإبتسامات والأحضان والقبل.... كانت الجدة مريم تمثل لأمي الأم التي لم ترها، وكانت أمي تمثل لجدتها مريم امتداد روح ابنتها التي لم يمهلها العمر سوى سنتين بعد الانجاب، هكذا عاشت أمي يتيمةً إلا من محبة الجدات.
كانت أحاديث الجدة مريم أخاذة، كانت تحكي لنا عن حقول القمح والبساتين وعناقيد العنب وحبات التين، عن أسواق المدينه القديمة، وبيوتها ذات الجدران العريضة والسقوف المقببة، كانت تسرد حكايات ألم فراق الإخوة ومآسي الغزوات قديمًا "يا ودادا يا ودادا، آخذوا خيك سِعادى، ذابحوا تيس الغنم" وها أنا الآن اعتلي صهوة مركبة حديدية تحلق في السماء ولا اتذكر من هي ودادا، ولا من هو سِعادى، ولكن كل ما أعرفه أننا كنّا في حالة نشوة لسرد الجدة مريم تلك الحكايات.
تذكرت زياراتنا أيضا لبيت الجدة مريم المتواضع، ثمة رائحة عبق لزمن قديم جميل، منسوجات يدوية، وسائدة وفرشات من الصوف، دلال قهوة نحاسية، مهباش وفناجيل كبيرة، الأرضية الخرسانية الملساء، الجدران ذات الاقبية لتخزين اللحف والبطانيات، تذكرت نظافة المكان، وكأنه متحف لعرض القطع التراثية...... لم يمر وقت طويل حتى افتقدنا حكايات الجدة مريم إلى الأبد، لكن ابتسامة الجدة مريم، وجهها الذي يشع نورًا رغم آثار الزمن الصعب عليه، كل تلك الأشياء لاتزال حاضرة إلى الآن.
فتح كابتن الطائرة مكبر الصوت ليعلن عن بداية الهبوط التدريجي....... لاحقًا عند استلام الحقائب جاءني رفيق السفر الغريب مودعًا، شعرت بأنه يعرف عن رحلة الخيال التي سافرتها أكثر من تفاصيل رحلتنا المشتركة إلى مملكة النشامى، صافحني بابتسامة لئيمة ثم قال: ألم أقل لك أن كل المرايم حنونات.
ابتسمت وصافحته، ثم مضى كلٌ منّا إلى غايته