مهدي مبارك عبد الله
الرئيس الامريكي دونالد ترامب المتربع على عرش القوة العظمى الوحيدة في العالم ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو القابض على مفاتيح القوة العسكرية المعربدة في الشرق الأوسط شخصيتين إشكاليتين كأنهما من طينة سياسية واحدة تم صبها في بوتقتين متطابقتين وهما وجهان لعملة واحدة ويتشاركان في العديد من السمات والعوامل الذاتية المتماثلة من صفات الغرور والغطرسة ويتشاطران جنون العظمة وسكرة القوة ولديهما نزعة يمينيةٌ متطرفة تشوبها الكثير من مظاهر العنصرية والميول الفاشية كما أنهما مغرمان بالأضواء والإعلام والسلطة ويحبان الكاميرا والميكرفون
والاثنان متعطّشان للحكم المطلق بصورة مفرطة ولديهما سجل حافل بالكذب والتضليل واللغة المزدوجة وكأنهما يقرآن من نص خطاب ديماغوجي واحد وبذلك وجد ترامب ونتنياهو كل منهما في الآخر شريكاً مثالياً في الحلبة السياسية وربما في السلوك الملتوي والهروب إلى الأمام سيما وان لكل منهما دور ينفذه بأسلوبه الخاص علي اكمل وجه في السعي لضرب البنية التحتية للمشروع النووي الايراني ومنع طهران من الحصول على قنبلة نووية لكنهما في ذات الوقت حذران من دوافع بعضهما البعض حيث يتحدثان كثيرا في العلن عن روابطهما السياسية والشخصية القوية ومع ذلك لطالما شاب العلاقة بينهما سوء الفهم والخلافات و انعدام الثقة.
في فجر يوم الجمعة الثالث عشر من شهر حزيران الجاري شنت إسرائيل هجمات جوية على إيران استهدفت منشأتي نطنز وأصفهان النوويتين كما هاجم عملائها في نفس الوقت بعض منصات اطلاق الصواريخ البالستية واغتالوا عدد بارز من القادة العسكريين والمسؤولين والعلماء وعلى اثرها تلقت تل ابيب مجموعة رشقات صاروخية ايرانية صاعقة شملت معظم المدن الحيوية والقواعد العسكرية والموانئ والمطارات الاسرائيلية ثم تصاعدت الهجمات المتبادلة بينهما حتى التوصل لاتفاق وقف اطلاق النار برعاية امريكية .
إرث الرئيس ترامب في السياسة الخارجية الامريكية يتمثل في كونه أول رئيس منذ عهد جيمي كارتر لم يبدأ حربا خارجية لذلك كان التوقع السائد انه لن يقدم على أي مواجهة عسكرية مع ايران وأن أقصى ما يمكن أن يقوم به أن يحاول تعزيز الضغوط عليها وأن السيناريو الوحيد الذي يمكن من خلاله أن يشن ترامب هجوما على إيران هو أن يكون هناك إجراء عسكري ضد القوات الأميركية في العراق أو أي هجوم إيراني ضد مصالح أميركية كبيرة على مستوى العالم حينها كان سيرد ترامب مباشرة ضد مقرات ومنشآت ايرانية عسكرية ومدنية.
في المرحلة الأولى وبعد انتهاء مدة الاتفاق البالغة 60 يوم للتغاوض عارض الرئيس الأمريكي ترامب الهجمات الإسرائيلية على إيران وحاول إيقافها وكانت معظم تصريحاته تظهر هذا الموقف وخلال محادثاته مع نتنياهو أعرب له ترامب بوضوح عن معارضته للهجوم على ايران وطالب بإعطاء فرصة للمفاوضات الدبلوماسية حيث أجابه نتنياهو لا يمكننا الانتظار ويجب على إسرائيل الآن التحرك للدفاع عن نفسها لان إيران لن تقبل أبدًا بأي اتفاق نووي حقيقي ومن هنا اعلن ترامب أن الجيش الأمريكي لن يشارك بشكل مباشر في الهجوم على ايران وقد نأت الإدارة الامريكية بنفسها عن الضربات الاسرائيلية المتواصلة .
عبر القراءات المكثفة والملاحظات المتراكمة يمكن القول بقدر قليل من المبالغة انه مع سعي الرئيس ترامب للتوصل إلى حل دبلوماسي بدا مقتنعا بما قاله له الإسرائيليون بانه توجد خيارات عسكرية موثوقة ستمنحه موقفا أقوى في المفاوضات مع إيران رغم الضغوط الهائلة للجمهوريين المناهضين للتدخل ومحاولة بعض المستشارين داخل البيت الأبيض وخارجه ثنيه عن التورط فيما وصفوه بأنه صراع بدأته إسرائيل وبعد خمسة أيام من الهجوم الإسرائيلي على ايران بقي موقف ترامب متذبذب الا انه بدأ يتغير باتجاه الدعم العلني مع اتضاح النجاح العسكري الأولي لإسرائيل والمفارقة هنا ان الرئيس ترامب بعد عودته الثانية للبيت الأبيض تعهد بأن يكون ( رئيس السلام ) الذي يرفض الزج بالولايات المتحدة في حروب جديدة وها هو في خطوة دراماتيكية ادخل أمريكا بشكل مباشر في الصراع المحتدم بين إيران وإسرائيل وبدلا من جلبه السلام لمنطقة الشرق الأوسط وضعها على حافة الهاوية وشفا حرب أوسع بعدما أصبحت أمريكا طرفًا نشطاً فيها رغم رفض الفريق الاداري المحيط به قيام واشنطن بضرب إيران بصورة مباشرة والدخول في علنية الحرب ضدها.
بعد عجز إسرائيل عن تدمير البرنامج النووي الإيراني بمفردها اندفعت امريكا في صباح السبت 22 حزيران 2025 إلى التدخل الجوي لاستكمال المهمة بضربتها العسكرية الخاطفة ضد ثلاث منشآت نووية إيرانية شملت مواقع في فوردو ونطنز وأصفهان باسم عملية ( مطرقة منتصف الليل ) التي جرى التخطيط لها بدقة بعد قناعات ترامب بان أنهاء النزاع لن يتم الا بتدمير منشآت التخصيب الإيرانية حيث قصر الهجوم على ضرب المراكز النووية التي تقع تحت الأرض بمئات الأمتار والتي تعجز إسرائيل عن تدميرها لأن تحقيق هذا الهدف يستدعي استخدام قنبلة جي بي يو 52 GBU 52 أو قنبلة جي بي يون 52 بي GBU52B والتي لا يمكن نقل إحداهما إلا بواسطة الطائرة الأمريكية بي 2 B2 أو الطائرة بي 52 B52 وبالتالي تحدد الدور الأمريكي على الهدف الخاص بالمشروع النووي الإيراني وينتهي عند هذه الخطوة ولا توجد خطط لشن هجمات أخرى لاحقة ولن تستثمر الى محاولة تغيير النظام في إيران .
قبل الضربة الجوية لجأ الرئيس الأميركي ترامب إلى خدعة إعلامية حين أعلن أنه سيقرر خلال أسبوعين ما إذا كان سيوجه ضربة لإيران والذي اختصر الى 48 ساعة فقط كما اعلن ترامب إلى أن الهجوم قد يتأجل بينما كانت العملية العسكرية قد دخلت فعلياً حيز التنفيذ بسرية تامة حيث أراد ترام كسب الوقت وخلق غطاء إعلامي بالتلميح إلى إرجاء القرار لضمان السرية الكاملة اتجاه الهدف الرئيسي وهو تدمير منشأة فوردو شديدة التحصين لتخصيب اليورانيوم الواقعة وسط منطقة جبلية جنوبي طهران تحت الارض بأكثر من 60 متر.
التقارير المتواترة اشارت إلى أن ترامب كان مستعداً لإلغاء الضربة حتى اللحظات الأخيرة في حال ظهور اي فرصة دبلوماسية بعد محاولات تنسيق مع تركيا لعقد لقاء سري مع مسؤولين إيرانيين في إسطنبول لكن فشل المحادثات ورفض إيران دخول المسار التفاوضي دفع ترامب إلى إعطاء الضوء الأخضر النهائي للعملية إلى جانب وصول تقييمات استخباراتية من وكالة الاستخبارات الأميركية وجهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد حول تسارع العمل في البرنامج النووي الإيراني بالإضافة الى تقديم تقرير صارم للوكالة الدولية للطاقة الذرية زاد الشعور بضرورة توجيه الضربة ناهيك عن نجاح إسرائيل في إضعاف الدفاعات الجوية الإيرانية ما دفع بالإلحاح لاستغلال الفرصة العسكرية وتوجيه ضربة بأقل قدر من المخاطر.
حسابات المصالح الامريكية الدقيقة بحسب الخبراء والمراقبين كانت تقضي بعدم اتخاذ ترامب قرار ضرب إيران خشية ردود الفعل القاسية والتعرض للضرر البالغ وامكانية المساس بأمن الأمريكيين سواء الجنود المتواجدين في المنطقة أو داخل امريكا نفسها في حال ما إذا أدى ذلك لاستهداف البلاد بعمليات انتقامية مضادة اضافة الى وجوب مراعاة الأزمة الاقتصادية والمالية والتراجع الصناعي ومشكلة المهاجرين وتحدي صعود الصين كقوة عالمية وترهل النخب السياسية الأميركية وتقاعس الأوروبيين والعلم المسبق بان الدخول في مواجهة مع ايران سيؤدي حتما إلى تفاقم هذه الأزمات كلها في الوقت الذي يحتاج فيه الأميركيون إلى إعادة بناء الداخل وليس فتح جبهات خارجية كما كان لا بد لترامب من عدم الانجرار خلف جنون نتنياهو او مساعي اللوبي الإسرائيلي لدفع امريكا إلى حرب لا تخدم مصالحها وتدخلها في عدوات وصراعات متعددة .
منذ بداية مهاجمة إسرائيل للمواقع النووية وأهداف أخرى داخل إيران قبل نحو أسبوع ونصف لوحظ تبادل نتنياهو وترامب الحديث يوميًا حول مجريات الاحداث وقد أُعجب ترامب إلى جانب كبار المسؤولين الأميركيين بنجاح إسرائيل العسكري ولولا تلك الإنجازات على الارض ونتائج عملياتها لما فكر الرئيس الأميركي اصلا بالانضمام إلى الضربة وفي مكالمة هاتفية لاحقة بين نتنياهو وترامب اعلمه بانه قرر شن ضربة جوبة على ايران وفي البداية خطط ترامب فقط لقصف منشأة التخصيب في فوردو ثم لاحقا تم اقناعه باستهداف منشأة أصفهان أيضًا لإنهاء المهمة بشكل كامل واذا كانت أميركا نفذت الضربة فان إسرائيل زودتها بالمعلومات الاستخبارية والاحداثيات الدقيقة التي ساهمت في نجاحها وان الجزء الأكبر من البرنامج النووي الإيراني إما تم تدميره أو تعرضه لأضرار بالغة ولم يتضح بعد ما إذا كانت عملية القصف قد ألحقت أضرارًا كافية لعرقلة قدرة إيران على امتلاك سلاح نووي او ما إذا كانت إيران نقلت بالفعل اليورانيوم الذي يستخدم في صنع الأسلحة من مختبر أصفهان الى اماكن امنة .
ختاما نؤكد انه ربما نجح الرئيس ترامب في الوقت الراهن في امتلاك زمام المبادرة السياسية والعسكرية حيال إيران وضرب مفاعلاتها النووية إلا أن إيران في الواقع ما زالت تمتلك الكثير من الأوراق السياسية والقدرات العسكرية لإطالة أمد الصراع بينها وبين إسرائيل الأمر الذي لن تستطيع تحمله كما لن تكون امريكا قادرة على الوقوف الى جانبها في كل مغامرة او مخاطرة مقبلة ومن الجهل وعدم الواقعية الظن بأن الضربات الاستباقية الصهيو امريكية ستركع دولة عدد سكانها 90 مليون وفكرها مقاوم وتراثها يمتد الى آلاف السنين.
كاتب وباحث مختص في الشؤون السياسية
[email protected]
لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
|
|
الاسم : | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : | |