رم - الدكتور ليث عبدالله القهيوي
في لحظة كثيفة الدلالات، صعد الملك عبدالله الثاني منصة البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ، لا ليكرّر المألوف من بيانات الإدانة ولا ليعزف على أوتار الشفقة، بل ليقدّم خطابًا محوريًا أعاد من خلاله تعريف العلاقة بين أوروبا وذاتها، قبل أن يعيد توجيه بوصلة القارة تجاه الشرق الأوسط، وتحديدًا تجاه جرحه المفتوح في غزة.
الخطاب الملكي تجاوز حدود البلاغة السياسية، ليتحوّل إلى هندسة دقيقة للضمير الأوروبي، حاك فيها الملك خريطة جديدة للتفاعل مع القضايا الإنسانية والسياسية، بدءًا من البعد الأخلاقي، مرورًا بالمسار القانوني، وانتهاءً بالاشتباك الاستراتيجي مع تحديات الأمن الأوروبي الجماعي.
ما ميّز الخطاب لم يكن فقط محتواه، بل البنية التصاعدية التي رتّب بها الملك انتقال الرسائل، بدءًا من التحفيز الأخلاقي إلى الاقتراحات القانونية، وانتهاءً بالنتائج الاستراتيجية. ومنذ افتتاح الخطاب، اختار الملك مواجهة أوروبا بأسئلتها المؤجلة: «كيف أصبح ما كان فظاعةً بالأمس مجرد خبر عابر اليوم؟». هذه الصيغة لم تكن بلاغة بل استدعاء نقدي لضمير قارة تفاخر بريادتها القيمية، لكنها وقفت عاجزة أمام معاناة غزة.
بذكاء لغوي ودبلوماسي، ألغى الملك الحياد الزائف باستخدام ضمير "نحن"، ليضع البرلمان الأوروبي في قلب المأساة، لا على هامشها.
ان الخطاب أزاح الغطاء عن تواطؤ الصمت، مقدّماً معادلة جديدة: الحياد في الجرائم الجماعية ليس موقفاً، بل شراكة في إنتاج البلادة الإنسانية.
أعاد الملك توجيه النقاش من الأخلاق إلى القانون، مستندًا إلى بنود اتفاقيات الشراكة الأوروبية، وتحديدًا المادة الثانية التي تربط الامتيازات التجارية باحترام حقوق الإنسان. بهذا التحوّل، لم يترك الخطاب مجالاً للهروب الرمزي، بل أجبر المؤسسة الأوروبية على التفاعل من موقع المسؤولية لا من منصة الإدانة النظرية.
المفارقة التي طرحها الملك بوضوح شديد، هي ازدواجية المعايير الأوروبية بين التعامل الصارم مع العدوان الروسي على أوكرانيا، والتراخي الفجّ أمام الانتهاكات في غزة. هذا التشخيص فتح الباب واسعًا أمام اختبار مصداقية الاتحاد الأوروبي، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل في كل ساحة تدّعي فيها بروكسل أنها تتحدث باسم القانون الدولي.
الأهم في الخطاب لم يكن التوصيف ولا الإدانة، بل الربط الاستراتيجي العميق بين مأساة غزة والأمن الأوروبي. الملك عبدالله لم يتحدث عن غزة كقضية إنسانية منعزلة، بل قدّمها كمتغير بنيوي في معادلة الاستقرار الإقليمي والأوروبي. لقد ربط بين أمن القارة وقيمها؛ بين استقرار الجنوب وشرعية الشمال.
في هذا السياق، بدا الخطاب كأنّه دعوة أوروبية لإعادة تعريف أمنها الجماعي ضمن نموذج متكامل لا يستند فقط إلى الأسلحة والجدران، بل إلى اتساق القيم مع الممارسة.
إن التعامل مع غزة كملف حقوقي ثانوي يكشف، كما أشار الملك، ضعفًا استراتيجيًا قد ينسحب على ملفات أخرى، ويقوّض موقع أوروبا في النظام الدولي في معادلات القوى الكبرى.
جاءت الردود سريعة وحاسمة: ثلاث وقفات تصفيق خلال الخطاب، تلاها تحرّك سياسي من كتل الخضر والاشتراكيين للمطالبة بمراجعة عاجلة لاتفاقية الشراكة مع إسرائيل. بل إن مصطلح "اختبار غزة" بات فجأة الكلمة المفتاح داخل أروقة البرلمان، لتقييم صدقية أوروبا الخارجية.
إنها ليست مجرد إجراءات، بل بداية تحول في البنية المفاهيمية للسياسة الأوروبية: من رمزية الخطاب إلى إلزام التشريع، من سياسة النأي بالنفس إلى اعتراف بالمسؤولية.
قدّم الخطاب نموذجًا متقدّمًا لما يمكن أن يُسمّى «القوة الناعمة الحادّة». الأردن، بعيدًا عن النفوذ العسكري أو التورط الجيوسياسي، استطاع ببلاغة مدروسة ومنطق دقيق أن يُحدِث فرقًا في واحدة من أعقد المؤسسات التشريعية في العالم.
طلب الاتحاد الأوروبي المتزايد لمشاركة عمّان في جهود الإغاثة وإعادة الإعمار، هو اعتراف ضمني بأن المملكة ليست مجرد طرف إقليمي، بل شريك موثوق قادر على ترجمة القيم الأوروبية إلى واقع، وسط منطقة يتقاطع فيها الدم مع الجغرافيا ومعادلات الطاقة والتحالفات.
إن كان خطاب الملك عبدالله قد حقق هدفه في نقل غزة من الهامش إلى مركز القرار الأوروبي، فإن التحدي المقبل يتمثل في ترجمة هذا الزخم الأخلاقي إلى التزام قانوني واستراتيجي دائم. نجاح البرلمان الأوروبي في ربط التعاون مع إسرائيل بتحسين الوضع الإنساني في غزة سيكون سابقة سياسية تكسر هيمنة الحسابات التجارية الباردة، وتؤسس لمرحلة جديدة في التوازن بين القيم والمصالح.
أما الفشل، فسيكشف أزمة عميقة في الهوية الأوروبية، ويُبقي القارة عالقة بين ادّعاءات القيم وسلوك المصالح.
في الحالتين، ما فعله الخطاب الملكي هو كسر وهم الصمت. لقد زرع صوتًا في برلمان القارة لن يُمحى بسهولة. ومن ستراسبورغ، ربما يبدأ تصحيح المسار السياسي تجاه الشرق الأوسط، لا بمدافع، بل بكلمات ثقيلة كالمواقف، واضحة كالبوصلة، وراهنة كالحقيقة.