رم - بقلم ـ محمد متعب احمد الفريحات
لم يكن الليل عابرا كعادته، بل كان مشحونا بما يفوق سكونه. خلف ستار الظلام، اشتعلت نار الصراع بعد أن ضربت إسرائيل ضربتها المباغتة، متجاوزة كل قواعد الاشتباك والقانون الدولي، ومعلنة بداية موجة جديدة من التصعيد. لم تكن الضربة مجرد رد عسكري، بل جزءا من استراتيجية أوسع تهدف إلى إضعاف إيران وتغيير نظام حكمها، واستبداله بنظام علماني مطيع لمصالح تل أبيب وواشنطن.
في لحظة واحدة، أطلقت يدها نحو السماء، وحولت الهدوء إلى جحيم، والانتظار إلى فوضى. لم تكن الضربة سوى إعلان واضح بأن من يتقن إشعال الحرائق، لا يريد إطفاؤها، بل يتلذذ باشتعالها، مستندا إلى دعم أمريكي يتجاوز التلميح إلى التورط الصامت. كيان قام على فوهة البندقية لا يعرف غير التصعيد، يتقمص دور الضحية كلما اشتعلت النيران، بينما هو من أوقدها.
لكن الحساب هذه المرة لم يكن كما أرادته تل أبيب. فالسكون الذي كانت تراهن عليه لم يدم. جاء الرد الإيراني مختلفا، هادئا في ظاهره، عنيفا في أثره، ذكيا حد الإدهاش. لم تكن المسألة عرض عضلات، بل عملية مدروسة بدقة مذهلة، تنفذ بخيوط من تنسيق عسكري عال، تربك وتكشف وتهدد.
في الظلام، بدأت الطائرات المسيرة والمقذوفات تحلق في موجات متلاحقة، كأنها مد بحري لا يتوقف. لم يكن التوقيت عشوائيا، بل محكوما بمنطق الليل، حين تتضاءل الرؤية وتتشتت القدرة على التمييز، فينهار نظام الرد الدفاعي، وتفتح ثغرات في الدرع الحديدي، ويتعثر الرادار وسط ضجيج الموجات المتداخلة.
إيران لم تضرب بعشوائية، بل ضربت بفلسفة دقيقة، أن تتفوق لا بكمية السلاح، بل بطريقة استخدامه. أن تجعل عدوك يشك في كل إشعار، ويرتبك أمام كل هدف، وينهار أمام كل موجة. ومع أول دفقة من الرد، رفعت طهران رايتها الحمراء، إشارة لا ترفع إلا حين يدخل الدم في المعادلة، حين يتحول الاشتباك إلى ما يشبه الإعلان غير المكتوب، انتهى زمن الإنذارات، وبدأ وقت القصاص.
في الخلفية، كان المشهد الأكبر يتغير. لم يعد العالم محكوما بالتحالفات التقليدية ولا بمواثيق المصلحة المغلفة بالشعارات. كل شيء يعاد ترتيبه من جديد. الأقطاب تتحرك، تتصارع، تتشكل وتتشظى. لم يعد هناك مركز ثابت، ولا ميزان دائم. حتى العروش التي كانت تبدو راسخة، باتت ترتجف فوق أرض رخوة من المصالح العابرة.
وهناك، في عمق هذا التغيير، تلوح ورقة قد تحول المشهد من تصعيد إلى زلزال، مضيق هرمز، ذاك الممر البحري الذي يعبر منه شريان الطاقة العالمي، لم يعد مجرد نقطة جغرافية، بل أصبح أداة ردع استراتيجية من الطراز الرفيع. فأي تهديد بإغلاقه كفيل بأن يصيب الاقتصاد العالمي بالارتباك، ويشعل أسعار النفط، ويحدث خللا في منظومة الأسواق قد لا تحتمله حتى واشنطن.
أمريكا، التي تتظاهر بالهدوء، تعرف تماما أن اللعب بهذه الورقة قد يدفعها إلى الجنون، ليس فقط سياسيا، بل اقتصاديا واجتماعيا واستراتيجيا. فالعالم الذي بني على النفط، لا يتحمل أن يفقد طريقه فجأة.
نحن لا نعيش تصعيدا عابرا، بل مرحلة جديدة من الصراع، تتداخل فيها التكنولوجيا بالحرب، وتتشابك فيها المصالح مع الجغرافيا. هنا تستخدم المسيرات كما تستخدم الخوارزميات، يرسم خط النار على خرائط البورصات كما يرسم على حدود الجبهات.
صراع اليوم ليس بين جيوش فقط، بل بين عقليات. بين من يملك التكتيك، ومن يراهن على الفوضى. بين من يستثمر في الذكاء الاصطناعي، ومن لا يزال يظن أن الحروب تحسم بالصراخ أو ببيانات الإدانة.
السؤال لم يعد من انتصر في الضربة الأولى؟ بل إلى أين تتجه هذه النار المتنقلة؟ هل نحن أمام ولادة نظام عالمي جديد من رحم الدخان والبارود؟ أم أننا نعيش لحظة احتضار لمنظومة لم تعد تقوى على مجاراة الواقع؟
السماء لم تعد فقط مسرحا للطائرات، بل ساحة يتقاطع فيها الذكاء مع الردع، والفكرة مع القذيفة، والمعلومة مع القرار. والعالم، من شرقه إلى غربه، يحبس أنفاسه. لأن كل ما يحدث اليوم، لا يقاس بالمتر ولا يرصد بالعين، بل يقرأ في خرائط النار، وشاشات القيادة، ونبض المصالح التي تغيرت ولم تعد كما كانت.
لقد انطلقت الشرارة.. ولم يعد أحد يملك رفاهية تجاهل اللهب.
الكاتب ـ محمد متعب احمد الفريحات