حاج وبشهادة كمان ..


رم -
المهندس عادل بصبوص

للسنة الثالثة على التوالي لم يرد اسمي ضمن قوائم الحج التي تعلنها وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية ... فقد تأهل للحج هذا العام مواليد عام 1954 فما دون ... ولولا تدخل وفضل أهل الفضل لبقيتُ على قوائم الانتظار سنة واحدة أو اثنتين أو ثلاث وربما أكثر من ذلك ...

أثار حصولي على تأشيرة الحج لهذا العام البهجة والسرور في نفسي وبدد الكثير من الرتابة التي صبغت سنوات العمر الأخيرة ... وقد تضاعفت بهجتي وازداد سروري بحصول زوجتي ورفيقة دربي على تأشيرة مماثلة فقد كانت ترى في تأدية فريضة الحج رحلة العمر التي تحلم بها منذ سنين ....

بانتظار المغادرة إلى الأراضي المقدسة بدأت تنتابني بعض مشاعر القلق والتوتر ... تزداد وتتعمق مع اقتراب موعد السفر ... وذلك بفعل الانطباع السائد بصعوبة المهمة واقترانها بالتعب والمشقة وبتأثير المشاهد التي ما زالت عالقة في الأذهان عن التدافع الذي حصل في أعوام ماضية وراح ضحيته مئات بل ألوف من الحجاج ... حتى أنني بقيت أؤجل تحضير حقائبي حتى اللحظات الأخيرة قبل السفر ... لأقوم بتجهيزها على عجل فآخذ أغراضاً لا حاجة لي بها وأغفل عن مستلزمات مهمة وأساسية ...

وصلنا مكة بعد رحلة في الجو لم تتجاوز ساعتين اثنتين وفترة مماثلة بالسيارة لقطع المسافة بين مطار جدة وموقع المشاعر المقدسة ...
تترجل من السيارة لتلفح وجهك هبات الهواء الساخن بل الحار ... بيئة صعبة وقاسية للحياة ... كيف يعيش الناس هنا .... ولماذا جاؤوا إلى هذا المكان .... وقبل أن تبدأ التفكير في ذلك يستعيد ذهنك على الفور الأية القرآنية الكريمة على لسان نبي الله إبراهيم "ربنا إني أسكنت من أهلي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهفو إليهم"...

تمر في الشوارع والساحات فتشعر بالهيبة حيناً وبالخشوع أحياناً ... فرُبَّ موقع تطأه قدماك الآن كان موطئاً لخطوات سارها سيد الخلق أو أحد أصحابه الكرام ... أو كان مسرحاً لحدث تاريخي كان له ما بعده ... تُرى في أي مكان من هذه المدينة كان يعقد سوق عكاظ ... أين موقع "دار الندوة" ... هل المكان الذي شهد قسوة أمية بن خلف وتعذيبه لبلال بن رباح قريب من هنا .... أين كان يسكن آل ياسر ....

أحد عشر يوماً فقط استغرقتها هذه الرحلة المقدسة تركت في نفسي بالغ الأثر ليس في الجانب الروحي فقط والمتعلق بأداء أحد أركان الإسلام الخمسة ... وإنما من الانطباعات والمشاهد التي علقت بذهني خلال هذه الفترة ... والتي من أبرزها ما كان يبدو على الكثيرين وما كانت تظهره لغة الجسد عند رؤيتهم للمرة الأولى للمسجد الحرام والكعبة المشرفة وهو ما تعجز عن وصفه أو التعبير عنه الكلمات والجُمَلْ ... لقد كان يبدو للكثيرين والكثيرات من الحجاج أن هذا المكان وما يحتويه في هذه البقعة من العالم ليس مقدساً فقط ... بل يكاد يكون جزءاً من عالم آخر ... عالم سماوي لا علاقة له بهذه الأرض وما عليها ...
تشعر وأنت تؤدي المناسك وسط هذه الألوف المؤلفة من البشر من مختلف الأعراق واللغات وكلٌ منشغلٌ بنفسه وبما يؤديه وكأنك تعيش يوم الحشر يوم يفر المرء من أخيه وصاحبته وبنيه ...

أخبرونا عندما كنا طلاباً في المدارس أن "الحج مؤتمر سنوي" يعرض بطريقة أو بأخرى قضايا المسلمين وهمومهم في مختلف بقاع الدنيا ....بحثت عن هذا المؤتمر في كافة أرجاء البيت الحرام فلم أجده ...
وجدت حجاجاً يؤدون المناسك كافة بدقة والتزام تام ويحرصون على شرب ماء زمزم والتضلع به ... بعضهم يوثق بعضاً مما يقوم به بالصور "سيلفي والكون كله خلفي"... لم أر أو أسمع شيئاً عن أي من قضايا الأمة وهمومها ... وكأن الدماء التي تسيل بلا توقف منذ أكثر من ستمائة يوم ليست دماء مسلمين مظلومين ....
فقط أدعية يتوجه بها البعض إلى رب السموات والأرض لهزيمة أعداء الأمة - من هم أعداء الأمة ؟؟!!-

اللون الأبيض في المكان يطغى على ما سواه ... أما واقع الأمة فسواده أشد من ظلمة الليل الحالك ...

لقد أكرمني الله بإنهاء المناسك، معظمها تم بسهولة ويسر ... وحُقَّ لي أخيراً أن أحمل لقب "حاج" .... لقب يسعدني ويسرني... هو ليس جديداً عَلَيّ ... فقد بدأ يَسِمُني به الكثيرون منذ أكثر من عقد ونصف عندما بدأ اللون الأبيض يغزو بلا توقف وانقطاع شعري الأسود الجميل ... كانوا يزعمون أنهم بذلك يوقرونني ويحترمون الشيبة وصاحبها .... لم أكن أحب سماع اللقب أبداً لأنه كان يذكرني كل لحظة وكل حين بأنني قد بلغت من الكبر عتياً ....

دهشت في البداية ثم عدت فابتسمت عندما منحتني الشركة التي سافرت معها شهادة كرتونية مثل شهادة الثانوية العامة تفيد بأنني قد أديت المناسك بنجاح ...
لذا فإنني أُعلم الجميع بناء على هذه الشهادة بأن اسمي قد اصبح منذ الآن يبدأ بحاء نقطة ( ح . ) على غرار دال نقطة ( د . ) لحملة شهادة الدكتوراة .... و"رح أزعل كثير" من كل من يتجاهل ذلك أو ينكره .... والحاضر يعلم الغائب ...



عدد المشاهدات : (4276)

تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لن ينشر أي تعليق يتضمن اسماء اية شخصية او يتناول اثارة للنعرات الطائفية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار وكالة رم للأنباء - أخبار عاجلة، آخر الأخبار، صور وفيدوهات للحدث. علما ان التعليقات تعبر عن راي اصحابها فقط.
الاسم :
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق :
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :