رم - أ.د. علي النحلة حياصات
نصلي، نصوم، نزكّي، نبارك لبعضنا بالأعياد، نغمر مسامعنا بأحاديث الرحمة والعدل، لكننا في الواقع نعيش ازدواجًا صارخًا بين ما نُعلن وما نُبطن، بين ما نمارس وما نؤمن. أصبح الدين عند كثيرين طقسًا اجتماعيًا لا أكثر، عادة خالية من الروح، لا تصنع وعياً، ولا تنهض بفرد أو مجتمع. نحن نمارس شعائر الإسلام، لكن قلّما نُجسد قيمه في سلوكنا، وكأننا نختبئ خلف واجهة إيمانية زائفة، تخفي هشاشة أخلاقية عميقة.
في رمضان مثلاً، يفيض الناس بالصلوات والزكاة، لكن أيّ زكاة هذه التي لا تسد جوع فقير ولا تعبر عن تكافل حقيقي؟ وأي صلاة تلك التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا تترك أثراً على اللسان أو اليد أو القلب؟ يعلو صوت التهجد في المساجد، لكن يُقابله في الأسواق غش وتدليس، وفي المؤسسات ظلم ومحسوبية. نحن نمارس التدين، لكننا لا نعيش الإسلام.
لقد تحوّلت كثير من العبادات إلى طقوس اجتماعية تُمارس تحت ضغط الجماعة أو مجاراة للمجتمع، لا بدافع إيماني أو فكر ديني حي. أصبح الدين ديكورًا يزيّن السلوك دون أن يوجهه، شعارات تُقال لا تُطبق، وألفاظًا تتردد دون أن تتجذر في الضمير. وهذا الانفصال بين الشكل والمضمون، بين القيم والسلوك، هو ما يكرّس التخلف، ويعيق النهوض.
والمؤلم أن هذا التناقض لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يتغلغل في الوعي الجمعي. الدولة في التصور الإسلامي ليست أداة حكم فقط، بل مشروع حضاري يقوم على العدالة، واحترام الإنسان، وبناء المؤسسات. لكن في واقعنا، لا تزال الدولة في ذهن المواطن مجرد سلطة، لا رسالة. نعلي من قيمة العشيرة على حساب القانون، ونفضل الشخص على المبدأ، ونتعامل مع الدولة وكأنها غريبة عنا، لا بيتاً نعيش فيه جميعًا.
في الأردن، كما في مجتمعات عربية أخرى، تتجلى هذه الأزمة بوضوح. نحفظ أسماء الصحابة ونبجّل العلماء، لكننا لا نتّبع خطاهم. نُعلّم أبناءنا في المدارس والجامعات عن الأمانة، ثم يرون الكذب في بيوتهم، وعن المساواة، فيشاهدون التمييز كل يوم. نُكرّم الأقوياء، ونُهين المستضعفين، نغضب للدين إذا انتُقد، لكننا لا نغضب حين يُنتقص من جوهره باسمنا.
لقد آن الأوان لمراجعة شجاعة. مراجعة لا تبدأ بإصلاح الخطاب الديني فقط، بل بإعادة تعريف الإيمان نفسه. فالإيمان الحقيقي ليس ما نردّده، بل ما نعيشه. ليس في المواعظ، بل في المواقف. نحتاج إلى عبور من الشكل إلى الجوهر، من الشعارات إلى الممارسات، من الانتماء الشكلي للدين إلى الالتزام الحقيقي بقيمه.
الإسلام، كما أراده الله، ليس مشروع طقوس فقط، بل مشروع إنسان. دين يبني النفوس ويبني المجتمع. وإذا أردنا أن ننهض، فعلينا أن نكف عن مجاملة بعضنا بالكلمات، وأن نواجه أنفسنا بصدق. فالتحضر لا يصنعه التدين الظاهري، بل يُصنع حين يتطابق السر مع العلن، حين يكون سلوكنا امتدادًا لقيمنا، وحين تصبح المساجد منطلقًا لبناء مجتمع عادل، لا محطة شعائرية للراحة النفسية.
إننا اليوم، لا نعيش أزمة دين، بل أزمة صدق مع الدين. أزمة ضمير، لا عقيدة. وإذا لم نتصالح مع ذواتنا، سنبقى نكرر المشهد ذاته, نحتفل بالأعياد بلا فرح حقيقي، نُصلّي بلا أثر، ونتحدث عن النهوض ونحن نغرق أكثر فأكثر في نفاق جماعي يُبارك الشكل وينسى الجوهر.
فهل نملك شجاعة التحول من "دين العادة" إلى "دين القناعة"؟ وهل نملك إيمانًا يبني الإنسان أولاً، فينطلق بعده لبناء مجتمع ودولة ؟
كل عام وانتم بخير جميعا!