رم - الأستاذ الدكتور لؤي بواعنة*
انطلقت الأحد الماضي من جزيرة صقلية جنوبي إيطاليا سفينة "مادلين "، بتنظيم من " تحالف أسطول الحرية "،والتي تضم عددا من النشطاء السياسين والممثلين والبرلمانيين في رحلة عبرالبحرالمتوسط وصولا لمدينة غزة الفلسطينية المحاصرة والتي يباد أهلها يوميا بنيران جيش الاحتلال الإسرائيلي، ويسقط مائة شهيد يوميا أمام مرأى من العالم المتمدن أجمع دون أن يمتلك أي منهما قراربوقف تلك الحرب. وقد أطلق عليها هذا الأسم نسبة لأصغرطفلة فلسطينية اسمها " مادلين كُلاب " تعمل في غزة بصيد الأسماك. والتي فقدت والدها بعد بدء حرب غزة عام 2023م وقامت القوات الإسرائيلية بتدمير قاربها الذي تعتاش منه.تهدف هذه الرحلة والقائمون عليها لغايات كثيرة،ولكنها لا تنطلق من باب العمل الخيري كما اعلنوا بقصد إيصال المساعدات من الحليب والماء والغذاء فقط ،بل أبعد من ذلك بكثير،بحيث تحمل معان ٍانسانية أسمى تتمثل بمحاولة كسرالحصارالمفروض على غزة،وإيصال رسالة سياسية للعالم والمجتمع الدولي ومنظمة هيئة الأمم المتحدة،مفادها بأن ما يحدث في غزة من جرائم حرب يومية ضد أهلها وأطفالها عمل غيرمبرر،ويجب أن يتوقف،وأن سادة العالم وزعماؤه التقليديين غيرقادرين على الوصول لحل لتلك الحرب،بل أنهم يقفون عاجزون عن كسر الحصاروإيصال المساعدات مكتفون بالمشاهدة عبرشاشات التلفازوالشجب وليس أكثر.
وتضم سفينة " مادلين " على متنها عدد من النشطاء من جنسيات مختلفة معظمهم من أوروبا ،من فرنسا والسويد،وهولندا وألمانيا وتركيا والبرازيل ومن الاكراد.ومن بينهم الناشطة السويدية في مجال المناخ : " غريتا تونبرغ "، التي صّرحت قبل مغادرة السفينة بقولها : ’’ نحن نفعل هذا لأنه مهما كانت الصعوبات التي تواجهنا،فإنه يتعين علينا الاستمرارفي المحاولة ؛لأن اللحظة التي نتوقف فيها عن المحاولة هي اللحظة التي نفقد فيها إنسانيتنا ’’. كما أضافت : ’’مهما كانت خطورة المهمة فانها لا تقارن بخطورة صمت العالم أجمع في وجه الإبادة الجماعية للأرواح ’’. في حين كانت الناشطة الألمانية ياسمين آجار أكثر حدة فقالت وهي على متن السفينة بأنها تقربأن هدفهم إنساني في حين إسرائيل هي التي تجلب العنف والقتل والإبادة،وبأن العالم يقف صامتا أبان الأبادة الجماعية ورسالتهم للعالم أنه لابد من التحرك وعدم الوقوف صامتين والخروج على آراء قادتهم،ورسالتها لكل من يستطيع أن يفعل شيئا أمام أنفسهم والأجيال اللاحقة .ويجب أن تكون رسالتهم فوق صوت الحكومات الصامته،بل رسالتها موجة لكل من يؤيد إسرائيل من عرب ومسلمين ويتواطئون معها. يا له من شعورعظيم ينتاب أولئك النشطاء انطلاقا من خدمة الإنسانية ورأفة بالطفولة وحقوقها،وصولا لرؤية واضحة،لما يعيشه العالم من انعدام للأخلاق،والكيل بمكيالين،وخوف وجبن تخاذل وظلم وعجزعن التصدي لليهود وبطشهم وسياستهم خوفا من القول عنهم أنهم أعداء السامية .
انطلقت هذه السفينة بتنظيم من من منظمة دولية تحمل اسم "تحالف أسطول الحرية "، وهي منظمة غيرربحية،وهي تحمل في عملها هذا ورحلتها هذه،رسائل عديدة سياسية وإنسانية.الرسالة الأولى : ذات معانٍ سياسية غاية في الأهمية للعالم والدول العظمى وزعماء العالم أجمع،لتعلن لهم فيها إقراربفشلهم الذريع في الوصول لحل،ووقفٍ لهذه المجازرالتي ترتكب يوميا في فلسطين من قبل إسرائيل دون أدنى معنى للإنسانية أوالشفقة،بل ودون أدنى اعتبار أوحق ٍ للناس في غزة بالحياة ،ودون تمتعهم بأدنى مقوماتها المتمثلة،بالطعام والشراب والماء والأمن والمأوى بحيث لا ينامون في العراء،أقل ما بها بعد أن تهدمت بيوتهم.وإن ما تمارسه إسرائيل بحق الفلسطينيين يعد انتهاك واضح لكل القيم الانسانية التي يتغنى بها زعماء العالم الغربي يوميا،وفي هذا دلالة على ما وصل اليه العالم المادي من سيادة وتفوق للمصالح فوق أي معنى وقيمة أخرى،وما وصل اليه العالم من ظلم واضح وصريح بحيث يأكل القوي فيها الضعيف .وهذا يعني أنه لم يعد هناك أي معنى للحياة،لأن مشاكلنا وحروبنا لم تعد تُحل من خلال القنوات الدولية ومنظماتها المعهودة،بل أصبحت تحل من خلال معاييرالقوة والسلاح والبطش فقط لاغير،وكأننا عدنا للوراء آلاف السنين،لأن أدوات الشربقيادة الولايات المتحدة الأمريكية تتواطىء مع الحكومة الإسرائيلية بقتل الغزاويين ليل نهار، وبأسلحتهم وترفض كل قرار لوقف الحرب باسم الفيتو الأمريكي.
لقد سبق لمثل هذه المنظمات الإنسانية أن قامت بمحاولات سابقة لفك الحصارعن أهل غزة،وفشلت أمام آلة الحرب الإسرائيلية الإجرامية،ولكن إصرارالقائمين على هذه المبادرة الإنسانية من الناشطين الغربيين وغيرهم ثانية لدليل على جدية مساعيهم الإنسانية،إنقاذا لأهل غزة،كما يدل على شيء أخر،وهوأن الحِس الإنساني ما زال يغمربعض النفوس في هذا العالم رغم كل الجراح وكل الظلم الواقع وكل الجبن الحاصل،فهناك ثلة من النشطاء مازالوا يشعرون بالمأساة التي يعاني منها الغزيون في هذه البقعة من فلسطين حيث القهروالظلم والقتل والتجويع والتركيع خدمة لدولة إسرائيل وأطماعها.ولهذا فقد تحركت مشاعرهم وحدهم فقط، رغم صعوبة المهمة وخطورتها،ورفض إسرائيل السماح لها بنجاح مهمتها وتحقيق أهدافها،وتهديدهم بمنع وصولهم لشواطيءغزة،في حين زعماء العالم وخاصة ومن يتحكمون بمصيره وشعوبه،مازال همُهم الوحيد إرضاء إسرائيل ومصالهم،وفشلهم في وقف الحرب والمجازراليومية التي ترتكب بحق أهلها ،لهو دليل على ضعفهم،وقساوة قلوبهم، وانعدام إنسانيتهم البتة .
هؤلاء الذين قاموا بمثل هذه المبادرة الإنسانية الصعبة هم من يستحقون الثناء،لأنهم ضحوا بأرواحهم ورفعوا صوتهم مع علمهم بأنهم قد يكونواعرضة لمدافع اليهود وصواريخهم،وقدلا يعودون لأوطانهم وأبناءهم، ومع ذلك تكبدوا مسؤولية إعلاءصوت الحق والعدل والإنسانية عاليا دفاعا عن الحق وردا للظلم التي ترتكبة إسرائيل وقادتها وجيشها .
والأمرالآخرالمتعلق برحلة " مادلين " هذه يتمثل برسالة للعالم العربي والإسلامي، مؤداها أن لاقيمة وفائدة لكل نشاطاتكم السياسية وفنونكم وعلومكم وفقهكم وجوائزكم ،إن لم تسخروها اليوم إحقاقا للحق والعدل،وردا للظلم الذي يرتكب أمام أعيينكم من قتل وتجويع لأهل غزة وأطفالها ونساءها . وكأن هؤلاء النشطاء بقولون للعلم الإسلامي :آلا تبصرون !.ومن الحري أن نقول لهم أنه من الأفضل أن تضعوا وجوهم في الرمال للخزي والعارالذي وصلتم إليه لضعفكم،ورداءة علمكم وثقافتكم وفنونكم،في حين يحمل هذه المهمة بدلا منكم العالم الغربي الذي للأسف،تنعتوه ليل نهار بالكفروالفساد الأخلاقي والقيمي والبعد عن الدين،في حين أنتم أهل الدين،وورثة عمربن الخطاب والمعتصم بالله،وعمرالمختار،لا تملكون جرأة على قول الحق،بل ولا تملكون مشروعا وطنيا أو إنسانيا فيه دفاعا عن بني جلدتكم،لأنكم لم تدافعواعن المستضعفين في الأرض،بل انغمستم في شهواتكم،والبحث عن شهرتكم ومناصبكم،حتى لوكلفكم الأمرلبيع دينكم بثمن بخس .فالسكوت عن الظلم بهذه الصورة البشعة التي ترونا أمامكم صباحا ومساءاً يعني المساهمة والشراكة فيه،حتى أن عقابه سيعم،كما أخبررسولنا الكريم بذلك.والسؤال الذي يطرح نفسه،أين هم أؤلئك مشاهيرالفن والثقافة والمنظمات والسياسة والإنسانية ومدّعي الدفاع عن الحقوق في العالم العربي والإسلامي!!. أين هم أعلام العروبة والإسلام ! أين هي قوة المال العربي !! وبما سُخرت !!.لابد لكم من إعادة الحسابات لعل ضمائركم تصحى من سباتها لتصلون إلى ما وصل إليه نشطاء سفينة مادلين رجالها ونساءها ،ولعل نساء مادلين يمتكلون من جينات الحَمِيّة والدفاع عن الحق ورد الظلم والظالمين عن ظلمهم أكثر بكثيرمن غيرهم من عرب ومسلمين من أهل الجاه والشأن والحل والعقد.
*أكاديمي أردني / جامعة البلقاء التطبيقية