رم - الأستاذ الدكتور يحيا سلامه خريسات
في زحمة الحياة وتسارع وتيرتها، يبقى "القدر" أحد أكثر المفاهيم غموضًا وإثارة للتأمل. كثيرًا ما نسير في طرق نظنها نهايات، فنكتشف لاحقًا أنها بدايات. نتخذ قرارات نعتقد أنها محض اجتهاد، بينما يخبرنا الزمن لاحقًا أنها كانت جزءًا من سيناريو مكتوب بعناية في "القدر المخفي".
القدر، ذلك اللغز الذي لا يُرى لكنه يُعاش. في كل قصة نجاح، خيبة، لقاء أو فراق، هناك خيوط خفية نسجت الأحداث بصمت. وبين الإيمان والدهشة، يقف الإنسان أمام تساؤلات لا تنتهي: هل نحن من نختار، أم أننا نُقاد بتقدير سابق لا نعلم تفاصيله؟
من قصص الناس العاديين إلى العظماء، تتكرر المفاجآت التي تبدو عشوائية، لكنها تنتهي بترتيب لا يمكن تفسيره إلا بوجود "قدر". رجل فقد وظيفته ليجد في ذلك الفرصة لبناء مشروع حياته. امرأة تأخرت عن موعدها لتتفادى حادثًا كان سيغيّر مصيرها. شاب عابر التقى بشخص غريب غير مسار مستقبله. كل هذه الحكايات ليست مصادفات عابرة، بل شواهد على أن هناك شيئًا أعظم يدير اللعبة من خلف الستار.
لكن هل القدر يتعارض مع الإرادة؟ هنا يكمن التحدي الفلسفي والديني الذي حيّر العقول. فبينما تؤمن كثير من الثقافات بأن كل شيء مقدر سلفًا، تؤمن أخرى أن الإنسان يمتلك حرية الاختيار. وقد يكون السر في فهم العلاقة بين الاثنين: أن نعمل ونجتهد، ونترك النتائج لما كُتب في الغيب.
"القدر المخفي" لا يعني الاستسلام، بل هو دعوة للتأمل. أن نحترم ما لا نفهمه، وأن نثق في أن وراء كل تأخير حكمة، ووراء كل ألم غاية، ووراء كل منع، عطاء قد نجهله الآن، لكنه سيتجلى لاحقًا.
وفي النهاية، تبقى الحياة رحلة بين ما نعرفه وما يخفى عنا، وبين ما نخطط له وما يُكتب لنا. وفي هذه المسافة، يتجلى القدر... في صمته، في دهشته، وفي حكمته التي لا تخطىء